Topics

صفوة الناس وخيارهم

جاء في السيرة النبوية للعلامة ابن هشـام ما نصه “قال ابن اسحاق حدثني رجل من أسلم كان واعية: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان بن عمرو في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه – أن أقبل متوشحا أي متقلدا قوسه راجعا من قنص أي صيد له وكان صاحب قنص برمحه وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم. وكان أعز فتى في قريش وأشد شكيمة. فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، قالت له يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم.

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول فرد ذلك علي إن استطعت فقامت رجال من بني مخزوم على حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل: دعـــوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن اخيه سباً قبيحاً، وقوي حمزة رضى الله عنه في إسلامه متّبعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وازدادت قوة المسلمين في مكة بسبب إسلام حمزة لأنه كان رجلا منيعاً ومن أبطال قريش وبعد إسلامه دخل عدد وجيه من الناس في الاسلام وبلغ عدد المسلمين في مكة ٣٠ مسلما وازدادت مخاوف قريش لما رأوا هذه السرعة في انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه. واجتمعت قريش في دار الندوة اكثر من مرة تناقش رجالها مع بعضهم البعض كي يتوصلوا إلى حل يفيدهم في منع الإسلام من الانتشار ولكن دون جدوى وعندئذ قرر عمر بن الخطاب أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عمر يوما متوشحاً سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين  ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة ابن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلى بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضى الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له أين تريـد يا عمر ؟

فقال أريد محمدا هذا الصابىء، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركوك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال وأي أهل بيتي؟ قال أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، قال. فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها “طه”ويقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب في مخدع – أي بيت صغير يكون داخل البيت الكبير لهم، أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة أي: (صوت كلام لا يفهم) التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجّها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك فلما رأى عمر ما بأخته من الدّم، ندم على ما صنع، فارعوى أي: (رجع) وقال لأخته أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتباً أي كان يعرف القراءة والكتابة، فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لا تخافي ووعدها أن يردّها إليها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس، على شركك وإنه لا يمسها إلا طاهر فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْ‌آنَ لِتَشْقَىٰ * إِلَّا تَذْكِرَ‌ةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْ‌ضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّ‌حْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْ‌شِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَ‌ىٰ * وَإِن تَجْهَرْ‌ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ‌ وَأَخْفَى* اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ *وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَ‌أَىٰ نَارً‌ا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارً‌ا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ‌ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَ‌بُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْ‌تُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ * إِنَّنِي أَنَا اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِ‌ي * [1]

فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له ياعمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله ياعمر فقال له عند ذلك عمر: تدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب هو في بيت (١) عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه فأخذ عمر سيفه متوشحاً ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع.

(١)    كان في دار الأرقم وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وكانت مقراً للاجتماع برسول الله عليه الصلاة والسلام مع المسلمين والإستماع إليه وتعلم الآيات الجديدة النازلة عليه وذلك في السنة الخامسة من النبوة.

فقال يارسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه فقال حمزة بن عبد المطلب إئذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إئذن له فأذن له الرجل، ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبة به جذبة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة فقال عمر يا رسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله قال فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم. ثم أخذ عمر رضى الله عنه النبي - عليه الصلاة والسلام - والمسلمين إلى الكعبة وكانوا يومئذ يصلون في خفاء دون علن وجعل عمر هؤلاء في مجموعتين مجموعة فيها عمر وحمزة بن عبد المطلب والنبي عليه الصلاة والسلام من بينهما ومجموعة أخرى فيها بقية المسلمين ولما رآهم رجال قريش ازداد حزنهم ولكنهم سكتوا ودخل المسلمون في جوف الكعبة وصلوا هناك علناً وهنا لقب الرسول صلى عليه وسلم عمر بالفاروق.
روى ابن اسحاق بسنده عن عمر قال لما أسلمت تذكرت من أهل مكة من هو أشد عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت أبو جهل فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ وقال أهلاً وسهلاً ما جاء بك: قال جئت لأخبرك اني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به قال فضرب الباب فى وجهي وقال: قبحك الله وقبــح ما جئت به.

كان بمكة رجل يدعى جميل بن معمر الجمحي وكان دأبه أن ينقل أي حديث أو واقع إلى الناس بأسرع ما يمكن فأخبره عمر عن إسلامـه وما أن سمع ذلك حتى نادى بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ فقال عمر وهو خلفه كذب ولكنني قد أسلمت وكان الناس رغم احترامهم لعمر وخضوعهم لقوته ومكانته من بينهم إلا أن الخبر وقع عليهم كالصاعقة. وثاروا عليه فما زال يقاتلهم وهم يقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم. وتعب عمر فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدالكم، فأحلف بالله أن لوكنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.

ولم يكن في وسع أحد من المشركين أن يجترئ على إيذاء سيدنا عمر رضى الله عنه – منفردا فجمع بعضهم بعضا وزحفوا إلى بيته ليقضوا عليـه. وفي البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بينما هو أي عمر في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة، وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاءنا في الجاهلية فقال له مالك ؟ قال: زعم قومك ِأنهم سيقتلوني إن أسلمت قال لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنت - فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادي فقال أين تريدون ؟ فقالوا هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ قال: لا سبيل إليه فكرّ الناس[2] وفي لفظ في رواية ابن اسحاق والله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه[3].

 



[1] سورة طه:الآيات 1-14

[2]           صحيح البخاري، باب إسلام عمر بن الخطاب ١/٥٤٥

[3]           ابن هشام ١/٣٤٩


محمد رسول الله الجزء الأول

خواجۃ شمس الدين عظيمي

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ

 

﴿وَالْعَصْرِ‌ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ‌ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‌*﴾[1]

 

إن كل إنسان بعد ولادته يرتبط بثلاثة أنظمة : النظام الأول هو حيث رأى خالقه الحقيقي وعاهده على أن يتم مشيئته ، النظام الثاني هو ما يسمى بعالم الناسوت-دار العمل أو دار الامتحان  ، والنظام الثالث حيث يتم إخبار الإنسان بنجاحه أو فشله.

يتوقف نجاح الإنسان في أن يدرك أنه قد أقرّ لله سبحانه وتعالى بأنه خالقه وربه. ويرى علماء الباطن أن الانسان مركب من سبعين ألف طبقة.

 وفقاً للقانون الإلهي فإن الإنسان حين يأتي لعالم الناسوت تغلب عليه طبقة واحدة تحوي العناد والبغي واللا أمان ، الجحود ، وكفران النعمة ،اللا شكر والعجالة ،الشك ، عدم اليقين ،هجوم الوساوس. هذه هي الحياة الأرضية التي سماها القرآن الكريم بـأسفل سافلين[2].

     تنص تعليمات الأنبياء الكرام  على أن الكون  كله يعمل فيه طرازان

 اثنان طراز  يحبه الله وآخر يبغضه سبحانه. أما الطراز الذي يبعد العبد عن ربه فيسمى بالشيطنة وأما الطراز المفضل الذي يقرب العبد إلى ربه فيسمى الرحمة.

إن الذي يبدأ في السير على طريق الروحانيات يترسخ في ذهنه أن شخصية الإنسان تنبني وفقاً لطراز تفكيره. فاذا كان طراز فكره[3] معقداً متشابكاً كانت شخصية المرء ملتوية معقدة. وإذا كان طراز فكره سديداً مستقيماً  وفقاً للقانون الالهي  كانت حياته بسيطة مليئة بالصدق والأمانة. أما إذا كان الشخص سطحي الفكر فحينها يفكر بطريقة سطحية ، في حين يتفكر صاحب الفكر العميق في كل شيء حتى يتوصل إلى كنهه و حقيقته.

في داخل كل فرد يوجد طراز فكر حب الحقيقة لكن لا يستعمل هذا الطراز الكل. فالمرء بالرغم من مشاهدته وفهمه للأمور الغير حقيقة إلا أنه يعتبرها حقيقية.

حينما يخطو السالك قدماَ على درب السلوك يتبدل طراز فكره الغير حقيقي الذي تلقاه من والديه والمجتمع. فكيفما كانت البيئة المحيطة بالشخص ترتسم نقوشها على ذهنه ، وبقدر ما تكون تلك المؤثرات عميقة بقدر ما يتشكل طراز فكر حياة ذلك الشخص. فإذا كان المحيط يحوي ويتكون من شخصيات ذات فكر معقد، فاقدة لليقين ، ملحدة الإعتقاد ، تظهر التخريب والأعمال السيئة في سلوكها، فإن الذي يعايشهم تكون حياته أيضاً ملوثة بتلك التأثيرات الفاسدة. وإذا كان مجتمعاً يسوده الصدق والقيم الأخلاقية الفاضلة كان الفرد صاف نقي النفس مدركاً للحقائق.

 لا يخفى على أحد أن الطفل لا يحتاج إلى تعلم الأبجدية ليتحدث لغته الأم. كذلك تنتقل صفات مجتمع الشك واللايقين إلى أذهان الأطفال تلقائياً  ، وبنفس الطريقة المجتمع الصالح وقرب المعلم الروحاني اللذان ينقلان للسالك طراز اليقين.

جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كان طراز فكرهم كلهم أن نرتبط بالذات الماورائية ونقيم الصلة معها، هذا هو طراز فكر الروحاني وهذه العلاقة هي حبل وريد الكون.

 طراز الفكر الروحاني هو عمل مستمر يجري في عروق السالك مجرى الدم،  والعائق الأكبر لهذا العمل هي العادات والتقاليد القديمة التي ترمي للمادية. فالبيئة التي يشب فيها الإنسان تصبح عادات وتقاليد العائلة والقبيلة ، ويكون أمناء هذه العادات هم الوالدين ، الأخوة والأخوات، أفراد القبيلة والأقرباء جميعاً.

في المجتمع الإنساني يصنف الناس إلى  فئتين:

١) الذين يعيشون التقاليد الموروثة ويتمسكون بها ولا يبالون لما يجري في العالم ولماذا يحدث؟ فيكفيهم أن ما يقومون به ويعتقدونه هو نفس ما قام به وآمن به آباءهم وأجدادهم.

٢) الفئة الثانية من الناس تفكر في سبب ما يحدث وما هو الصواب وما هو الخطأ ؟

 كان مشركو مكة يعلمون بأن أناساً مثلهم قد نحتوا الصخور ليصنعوا أصنامهم الـ(360) ، وأنها لا تتحدث ولا تسمع كالبشر.......... لكن غلبة سيطرة العادات والتقاليد العائلية عليهم جعلتهم يتخذون تماثيلاً من قطع الحجارة الجامدة بمثابة آلهة لهم. ولم يكونوا يعبدونها فحسب بل لم يكن بوسع أحد أن يبين حقيقة هذا الأمر أو يبدي استنكاره نحو عبادة تلك الأصنام ، حيث كانوا يلحقون به أشد العقاب ويتباهون بصنوف العذاب المشينة .فالمحيط المغمور بتقاليد القرون السالفة وغبار الجهل جفف ينبوع الفهم من داخلهم.

ولنضع أمامانا أطفالنا كمثال : حينما نفصل الأطفال عن بيئة الجهل وندخلهم البيئة العلمية .....فنحن في الواقع نعلن بذلك ثورتنا على الجهل ونلحق الطفل بالمدرسة(أي البيئة المتحررة من الجهل).

 وليتم الطالب الصف الأول ثانوي يحتاج إلى عشر سنوات دراسية. وباحتساب عدد الساعات التي يقضيها الطالب في الدراسة نجد أنها 3500 ساعة في السنة الواحدة ، وهي المدة التي يحتاجها طفل ليتعلم العد إلى الـ (100).

بإنهاء الصف الأول الثانوي يكون الطالب قد صرف  35 ألف ساعة وآلافاً من الدنانير. بذلت الأم  قصاري جهدها في هذه الفترة ليركز ولدها في الدراسة ، وأولى الأب الاهتمام بألا يحدث تقصير في تعليم ابنه ، بالإضافة إلى تنبيهات ونصائح الأخت له ومساعدة الأخ أخاه في دراسته. بعد هذا التوجه والرعاية الفائقة من الجميع يتم الولد المرحلة الثانوية.

ولم تبدأ الدراسات العليا بعد، فبعد الثانوية تتفتح الطرق لأي مجال على المرء أن يسلك قدماً ليصبح هذا الولد طبيباً أو مهندساً أو محاسباً أو طياراً أو صانع آلة وغيره....

 بعد مرور 10سنوات لا يغدو المرء عالماً إنما فقط استعد ذهنياً لدراسة وتحصيل العلوم المادية المرموقة.... هذا هو الحال بالنسبة إلى العلوم الدنيوية.

أما في الجانب الآخر تكون العلوم الروحانية :حيث يخصص المرء بصعوبة ساعة واحدة فقط أسبوعياً وبهذه الطريقة يكون قد صرف أربع ساعات شهرياً و٤٨ ساعة سنوياً إلى جانب قضائه أشغاله المادية من ذهاب للعمل والانهماك فيه ، الزواج ، وغيرها من الأمور.كما ويظل متصلاً ذهنياً بالعادات والتقاليد القديمة وبالبيئة المحيطة به.

بعد قضاء 48 ساعة فقط في السنة الواحدة كيف للمرء أن يفكر في أنه لم يحصل على شيء أو يتمتع بلذة الكشف أو يطلع على ما فوق الفطرة ؟!!وهو ما يعني أن أهمية الروحانية قللت لتصبح أقل منها للصفوف الابتدائية للعلوم الدنيوية.

 فالطالب بعد قضائه ٣٥٠٠ ساعة سنوياً لمدة عشر سنين يصبح مؤهلاً فقط لاختيار مجال تخصصه في الدراسات العليا فكيف له أن يسوغ لنفسه تمني بلوغ  الروحانية بقضاء ٤٨ساعة فحسب؟

إن طراز فكر المعلم الروحاني فريد من نوعه مختلف عن طراز الفكر السائد في المحيط المادي المحض. فهو يمتاز بالتوكل والاستغناء وعدم طلب الدنيا ، ويكون التوحيد مركزاً له.

من الضروري لطالبات وطلاب دراسة العلم الروحاني أن يملؤوا باطنهم بالهمة والعزيمة لتفادي الأفكار السلبية الشيطانية والتقاليد الغير إسلامية..... وأن يسيروا قدماً على الصراط المستقيم بمزاج ثابت مقتفين نقوش خطى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ويهزموا الطاقات الطاغوتية وجل طغيان النفس في سبيل الظفر بالعرفان الإلهي.

إن الصفحات القادمة من هذا الكتاب تجمع بين طياتها جوانباً من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بينا فيها طراز الفكر الإيجابي الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم نشره ، والعقبات والعراقيل التي وضعها ممثلو الشر في وجه كل خطوة من خطواته.

 في طريق التوحيد لإبعاد هذه العوائق عاش الرسول صلى الله عليه وسلم حياته في معاناة ، وتحمل الأذى الجسدي والذهني. لكن في النهاية نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى إلى  عباده ورضي الله عنه وأرضاه.

لابد لأفراد السلسلة العظيمية  المعينون لتسيير المهمة الروحانية من مطالعة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطيبة وقراءتها مراراً وتكراراً ، والتفكر فيما عاناه وتحمله الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى لأجل إشاعة المهمة ونشر الوحدانية وإدخال الكفار في حلقة ونطاق التوحيد.

بجعل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نبض قلوبنا فإن مدد ودعم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  سيكون معنا في كل خطوة نخطوها في طريق نشر تعليمات السلسلة العظيمية وإشاعة العلوم الروحانية وإيصالها للنوع الإنساني...وبلا شك  سنفلح في الدنيا ونسعد في الآخرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنتمكن من اتخاذ خطوات جريئة ومواجهة الظروف القاهرة  المحطمة للقلب والإعراض عن افتراءات الناس واتهاماتهم.

قبل وفاة حضرة قلندر بابا أولياء(رحمه الله) خاطبني قائلاً:

السيد/خواجة..

ناشرو المهمة يتصفون بالجنون..

هل فهمت ما قلت؟

فرددت عليه: سيدي!وفقاً لما تريد واضعاً تعليماتك نصب عيني سأعمل للسلسلة كالمجانين.

فرح قلندر بابا أولياء (رحمه الله) لدى سماعه ما قلت ووضع يده فوق رأسي ثم راح يرسم دوائراً  بأنامله على جبهتي  وبعدها نفخ عليّ وقال: ليحمك الله وينصرك.

في طريق تقدم  المهمة  مالم ينج الإنسان من شتى أنواع المصالح الدنيوية  من  الجشع والتوقع ، الحسد ، الطمع، الكبر والتغطرس، الإحساس بالعظمة أو النقص،  الغرور ، لن يتولد فيه جنون المهمة.

إن هذا الكتيب المختصر يلقي الضوء بإيجاز على قسم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بذل فيه جهوداً جبارة  في تبليغ الدين لمدة  ثلاث وعشرون سنة. وأن حياته من ولادته الشريفة إلى بلوغه الأربعين من عمره تعد مشعلاً في طريق السالكين.

إننا كنساء ورجال السلسلة العظيمية الذين تقع على أكتافنا مسؤولية تعميم تعليماتها بلا شك محظوظون وسعداء بهذا الشرف.

 

ولحفظ هذه السعادة والشرف وتأدية شكرها يجب علينا  أن نطالع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخية مراراً وتكراراً . هذا العمل سيمدنا ويولد بداخلنا اليقين والقوة والعزيمة التي ستدفعنا للسير

خواجة شمس الدين عظيمي

مركز المراقبة الرئيسي ، سرجاني تاون كراتشي

١٢ ربيع الأول ١٤١٧ هجرية   /الموافق ٢٩ يوليو ١٩٩٦ ميلادية

قدماً.



[1]   سورة العصر : الآيات 1-3

[2]  سورة التين : الآية 5

[3]  طراز الفكر: نمط التفكير