Topics

اعتداء الكفار على أصحاب محمد

بالرغم من أن كفار مكة كانوا يقرون بخلق أعلى للنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته النموذجية العليا، وبالرغم من أن عمه أبا طالب يحميه و يذود عنه، إلا أن الكفار كانوا لا يهدأ بالهم، ما لم يجدوا طرقاً للنيل من النبي عليه الصلاة والسلام ويزيدوا من حقدهم وشماتتهم. وكانت هجماتهم تنصب على ضعفاء المسلمين في المجتمع فكانوا لا يألون جهدهم في تعذيبهم والتشديد عليهم.

فكان أبو جهل إذا علم بإسلام شخص وقور له مكانة في المجتمع سبه وغلظ في سبه وأهانه وهدده بالخسارة في ماله وأنه سوف يتعرض للمشاكل وإذا دخل في الإسلام شخص ضعيف لا سند له في المجتمع أو ركن شديد ضربه واعتدى عليه وحرض الآخرين أيضا ضده. ولما أسلم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه غضب عليه عمه وجعله ملفوفا بحصير مصنوع من أوراق النخيل وأوقد من تحته  المدخنة ليخنقه أنفاسه[1].

وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه شابا أنيقا ومنعماً منذ طفولته وعندما علم أهله عن إسلامه قاطعوه وطردوه من البيت. وضاقت عليه الدنيا بما رحبت وافتقر إلى شيء يسد به رمقه فأصبح هزيلا وتخشف جلده. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه غلاما لبني مخزوم أسلم هو ووالداه. فتعرضوا جميعا لأنواع من العذاب الشديد أدى إلى وفاة والديه ياسر وسمية.

ففي الظهيرة عندما يشتد الحر يطرحونهم أرضا على ظهورهم ويضعون الصخر الأحمر على صدورهم ويغرقونهم أحيانا في الماء لفترة يصعب فيها التنفس وكانوا يطلبون منهم أن يسبوا محمدا وأن يقولوا في اللات والعزى خيرا وفعل عمار رضي الله عنه ماطلبوا منه كرها ثم بكى وحضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره ما بدر منه فنزلت الآية ﴿مَن كَفَرَ‌ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِ‌هَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَ‌حَ بِالْكُفْرِ‌ صَدْرً‌ا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [2]

ونتيجة لهذا الظلم الشديد توفى ياسر والد عمار – رضى الله عنه – ونال درجة الشهادة عند ربه وزوجه سمية – رضى الله عنها – استشهدت أيضا في سبيل ربها حيث طعنها أبو جهل فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام[3].

وسيدنا خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية. قررت قبيلتها بتشديد العذاب عليه فأضجعوه أكثر من مرة على فحام ملتهبة يضعون الحجر على صدره الشريف ويجذبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بطريقة وحشية[4].

أبو فكيهة واسمه الحقيقي أفلح وكان مولى لبني عبد الدار كانوا يربطون أرجله بالحبل ويشدونه ويجرونه على الأرض.

وسيدنا عمر رضي الله عنه كان من قبيلة بن عدي فلما أسلمت جارية لبني مؤمل – وهم حي من بني عدي – استشاط عمر – وهو مشرك آنذاك. غضبا وجعل يضربها واستمر فيه حتى مل. فكان يقول لها: إني لم أترك إملالة[5].

وكان المشركون يقومون بلف بعض من آمن منهم في إهاب الإبل والبقر ويلقونهم فــي حر الرمضاء وبعض من هؤلاء المؤمنين يلبسونهم درعا حديديا ويلقونهم بعد ذلك على صخـرة ملتهبة[6]. وأول من دخل من الموالى بعد زيد رضي الله عنه هو سيدنا بلال الحبشي  رضي الله عنه. 

وكان غريبا عليهم وكان مولى لـ أمية بن خلف الجمحي وكان بلال رجلا أسود من الحبشة فلما علم مالكه الشقي عن إسلامه اصطحبه إلى خارج مكة وجرده من ثيابه وأضجعه على الرمال الحارة في حرّ الشمس بعد بسط يديه وأرجله ويضع صخرة كبيرة على صدره ويقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد. وكان بلال يعلم جيدا أن مالكه يفعل ما يقول لا محالة ولكنه أيضا كان قد تذوق حلاوة الإيمان فلم يرض إلا أن يقول وهو في تلك الحالة التعسة: أحد، أحد واستمر سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه في هذا الاضطهاد صابرا محتسبا حتى مر به يوما أبو بكر – رضي الله عنه فاشتراه بغلام أسود وقبل بسبع أواق أو بخمس من الفضة ثم اعتقه لوجه الله الكريم.

كان لعمر – رضي الله عنه – لبينة و زنيرة من الإماء دخلتا في الإسلام وأسلمتا. وعمر وإن لم يكن شقي القلب مثل أمية بن خلف الجمحي ولكن لكونه كان مشركا آنذاك لم يعجبه إسلام الجاريتين فقرر أن يعذبهما بالسوط وقال لهما: إما أن تكفرا بدين محمد أو أن أضربكما حتى تموتا وأدمى عمر الجاريتين ولكنهما ظلتا على الإسلام حتى علم أبو بكر رضي الله عنه بحالهما فعرض على عمر أن يبتاعهما فباعهما لأبي بكر وكعادته الجريئة أعتقهما أبو بكر – رضي الله عنه – لوجه الله[7]. ومن بين من أسلم من النساء في مكة يؤمئذ غزية – رضي الله عنها- كانت من المناطق البدوية ولم تكن جارية مملوكة. أقامت في مكة ودخل الإسلام قلبها فأسلمت. وبدأت تدعو الناس علنا إلى الإسلام.

لأن نساء البدو مثل رجالهم، سمعتهم الجرأة والإقدام وحاولت قريش تخويفها وأوعدوها ولكنها لم تتزعزع في عملها الدعوي.

ولما رأت قريش أنها لا تبالي بأي تهديد ولا تتنازل عن دعوتها، قاموا باختطافها وأخذوها إلى خارج مكة وسلموها لإحدى القوافل وربطوها على إبل بشدة وقالوا لرجال القافلة: خذوها معكم ولا تدعوها تأكل أو تشرب حتى تموت جوعا وعطشا. وارموها بعد موتها في الصحراء. وجاء في رواية عنها تقول غزية: مرت ثلاثة أيام مع لياليها وما تذوقت طعاما أو شرابا حتى أوشكت على الهلاك وفي اليوم الرابع وأنا مغشية شعرت ببلل على شفتي فشربت منه ما شربت حتى رويت. وظن رجال القافلة أنني هلكت ولما وجدوني على قيد الحياة وعلى نشاط استغربوا وحكيت لهم ما جرى لي في الليل فندموا وأطلقوا سراحي.

وسمية – رضي الله عنها – جارية أبي جهل: لما أسلمت، أمرها أبو جهل أن تتخلى عن دينها الجديد فأبت وقالت أنها لا تتخلى عن دين محمد صلى الله عليه وسلم – واستشاط أبو جهل غضبا وعداءً وانهال عليها بالضرب بالسوط حتى سقطت مغشيا عليها على الأرض. وعلم سيدنا أبوبكر بذلك فتوجه إلى بيته وعرض عليه أن يشتري منه هذه الجارية المسلمة ولم يرغب أبو جهل فيه فعرض عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يعطيه مائة دينار ويشتري الجارية منه فأبى وزاد أبو بكر السعر وأصر أبو جهل على رفضه وعندئذ اقترح عليه أبو بكر رضي الله عنه اقتراحا مغريا وقال له: لو بعتني هذه الجارية  فإني سأدفع لك “الابل القاضية”وهي لدى البدو إبل تمنح لأهل المقتول مثل الدية وتكون ذات قيمة كبرى ولكن أبا جهل كان غارقا في عداوة النبي ودينه فلم يرض. وأبو بكر رضي الله عنه الذي اعتق رجلين من الموالي وأربع من الجاريات لم ينجح في تحرير رقبة سمية.

ولما سمعت نساء قريش أن سمية تعذب يوميا في بيت أبي جهل ومع ذلك لا تتخلى عن الإسلام ذهبن إلى أبي جهل و التمسن منه أن لا يضربها وهي التي كانت تعين كثيرا من نساء قريش ولكن أبا جهل أبى إلا أن يواصل اعتداءه عليها واستمر يضرب بالسوط حتى نزف كل جسمها ورغم ذلك أصرت على إسلامها وأنهـــا لا تترك دينها.
ولما يئس أبو جهل من ارتدادها عزم على قتلها. فأخذها في أحد الأيام إلى الكعبة وأوقفها أمام الحاضرين ثم سألها هل هي تترك دين محمد صلى الله عليه وسلم أم لا. ورفضت هذه المؤمنة الصابرة الردة عن الدين الإسلامي فقال أبو جهل إذن سوف أقتلك الآن ثم رماها برمح رمية قوية خرج من صدرها إلى ظهرها وماتت شهيدة في سبيل الله. وجاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما علم عن جهد أبي بكر رضى الله عنه في تحرير سمية دعا أن يجعل وجه أبي بكر رضي الله عنه ناضرا دائما.

وبعد قتل سمية – رضي الله عنها – قرر أسياد قريش ومنهم أبو سفيان وأبو لهب وزوجته أم جميل أن لا يبيع أحد من أهل مكة جاريته أو مولاه، لأبي بكر – رضي الله عنه – وذلك لعلمهم وإدراكهم أن الإسلام يشق طريقه إلى الطبقة الكادحة وأن أبا بكر يبذل ماله لتحرير الموالي المسلمين ولا يبالي.

ولم يكن الإسلام يدخل في قلوب ضعفاء المجتمع فقط بل كان شرفاء الناس أيضا ينجذبون إليه ويدخلون فيه ومنهم عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ابن أخ لآمنة رضي الله عنها – وطلحة بن عبيد الله وسعد بن عمرو – رضي الله عنهم أجمعين – وآخرون أمثالهم وبذلك زادت قوة الإسلام ومتبعيه وزادت كذلك شراسة قريش وحقدهم على الإسلام والمسلمين وبدأو يتفتنون في الإيذاء وإقامة العراقيل.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما خرج من بيته، كان واجه الخطر. كان السفلة من الناس ينتظرونه على الطرق فإذا رأوه رموه بالحجارة أو يلقون الأذى عليه. وقد أعمت عداوة قريش لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أبصارهم وبصيرتهم فانتزعت منهم كل شرف وخلق حتى احترام الكعبة فقد حاول الكفار القضاء عليه مرتين وهو في جوف الكعبة.

كان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه صحابيا جليلا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكان من قبيلة غفار التي كانت تسكن في شمال مكة المكرمة. والعرب البدو كانوا يمتنعون عن السرقة والقرصنة والأعمال السيئة الأخرى خلال أربعة أشهر من كل سنة ويسمون تلك الأشهر “الأشهر الحرم”وكانت القوافل تأتي إلى مكة أيضا في أمان في تلك الفترة ولكن قبيلة غفار كان لها شأن آخر فهي لم تكن تحترم تلك الفترة وتمس من كرامة القوافل وتنهب أموالها وتعتدي حتى على القوافل المتجهة لزيارة الكعبة أيضا وكان هذا من دأبها. وفي إحدى المرات وبالتحديد في شهر ذي القعدة هجمت هذه القبيلة على قافلة تمر من منطقتها فنهبت أموالها وقتلت رجالها ونساءها وأطفالها. وكان أبو ذر – رضي الله عنه – يؤمئذ مشركا ولكنه مع ذلك شعر بندم بالغ الأثر فانفصل عن قبيلته وذهب هنا وهناك حتى وصل إلى مكة فسمع عن النبي عليه السلام وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده وينهى عن الفحشاء والمنكر وأن لا يشركوا بالله شيئا.

فأراد أن يزوره وسأل أحد المارة عنه وحدق الرجل نظره في أبي ذر متعجبا بما يسأله ثم نادى بصوت عال أيها الناس خذوه فإنه مسلم واقتلوه وتهافت الناس عليه يعتدون عليه بالضرب وهرب أبو ذر منهم وحاول التخلص منهم ولكن كفار قريش واصلوا رميه بالحجر عليه وأدموه وسقط على الأرض فتركه الكفار ظنا منهم أنه قد هلك وبلغ الخبر إلى سيدنا أبي بكر – رضي الله عنه – فسار إليه في الليل وأحضره إلى بيته بمساعدة المسلميـن الآخرين وفي اليوم التالي دخل أبو ذر – رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم وبذل قصارى جهوده في دعوة قبيلته إلى الإسلام حتى أسلموا وتابوا من أعمالهم السابقة. وتدل هذه الواقعة على مدى العداوة والبغضاء في قلوب الكفار الذين لم يتركوا شخصا سألهم فقط عن عنوان الرسول عليه الصلاة والسلام. رضى الله عن الرعيل الأول وأرضاهم. اللهم وفقنا مثلهم.



[1]  انظر كتاب (رحمة للعالمين) ١/٥٧ محمد سليمان سلمان المنصور فوري

 [2]  سورة النحل:الآية 106

[3]  انظر ابن هشام ١/٣١٩، ٣٢٠

[4]  انظر رحمة للعالمين للمنصور فوري ١/٥٧

[5]  ابن هشام ١/٣١٧-٣١٨

[6]  وانظر تلقيح الفهون لابن الحوزي ص ٦١

[7]  ابن هشام ١/٣١٧-٣١٩


محمد رسول الله الجزء الأول

خواجۃ شمس الدين عظيمي

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ

 

﴿وَالْعَصْرِ‌ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ‌ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‌*﴾[1]

 

إن كل إنسان بعد ولادته يرتبط بثلاثة أنظمة : النظام الأول هو حيث رأى خالقه الحقيقي وعاهده على أن يتم مشيئته ، النظام الثاني هو ما يسمى بعالم الناسوت-دار العمل أو دار الامتحان  ، والنظام الثالث حيث يتم إخبار الإنسان بنجاحه أو فشله.

يتوقف نجاح الإنسان في أن يدرك أنه قد أقرّ لله سبحانه وتعالى بأنه خالقه وربه. ويرى علماء الباطن أن الانسان مركب من سبعين ألف طبقة.

 وفقاً للقانون الإلهي فإن الإنسان حين يأتي لعالم الناسوت تغلب عليه طبقة واحدة تحوي العناد والبغي واللا أمان ، الجحود ، وكفران النعمة ،اللا شكر والعجالة ،الشك ، عدم اليقين ،هجوم الوساوس. هذه هي الحياة الأرضية التي سماها القرآن الكريم بـأسفل سافلين[2].

     تنص تعليمات الأنبياء الكرام  على أن الكون  كله يعمل فيه طرازان

 اثنان طراز  يحبه الله وآخر يبغضه سبحانه. أما الطراز الذي يبعد العبد عن ربه فيسمى بالشيطنة وأما الطراز المفضل الذي يقرب العبد إلى ربه فيسمى الرحمة.

إن الذي يبدأ في السير على طريق الروحانيات يترسخ في ذهنه أن شخصية الإنسان تنبني وفقاً لطراز تفكيره. فاذا كان طراز فكره[3] معقداً متشابكاً كانت شخصية المرء ملتوية معقدة. وإذا كان طراز فكره سديداً مستقيماً  وفقاً للقانون الالهي  كانت حياته بسيطة مليئة بالصدق والأمانة. أما إذا كان الشخص سطحي الفكر فحينها يفكر بطريقة سطحية ، في حين يتفكر صاحب الفكر العميق في كل شيء حتى يتوصل إلى كنهه و حقيقته.

في داخل كل فرد يوجد طراز فكر حب الحقيقة لكن لا يستعمل هذا الطراز الكل. فالمرء بالرغم من مشاهدته وفهمه للأمور الغير حقيقة إلا أنه يعتبرها حقيقية.

حينما يخطو السالك قدماَ على درب السلوك يتبدل طراز فكره الغير حقيقي الذي تلقاه من والديه والمجتمع. فكيفما كانت البيئة المحيطة بالشخص ترتسم نقوشها على ذهنه ، وبقدر ما تكون تلك المؤثرات عميقة بقدر ما يتشكل طراز فكر حياة ذلك الشخص. فإذا كان المحيط يحوي ويتكون من شخصيات ذات فكر معقد، فاقدة لليقين ، ملحدة الإعتقاد ، تظهر التخريب والأعمال السيئة في سلوكها، فإن الذي يعايشهم تكون حياته أيضاً ملوثة بتلك التأثيرات الفاسدة. وإذا كان مجتمعاً يسوده الصدق والقيم الأخلاقية الفاضلة كان الفرد صاف نقي النفس مدركاً للحقائق.

 لا يخفى على أحد أن الطفل لا يحتاج إلى تعلم الأبجدية ليتحدث لغته الأم. كذلك تنتقل صفات مجتمع الشك واللايقين إلى أذهان الأطفال تلقائياً  ، وبنفس الطريقة المجتمع الصالح وقرب المعلم الروحاني اللذان ينقلان للسالك طراز اليقين.

جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كان طراز فكرهم كلهم أن نرتبط بالذات الماورائية ونقيم الصلة معها، هذا هو طراز فكر الروحاني وهذه العلاقة هي حبل وريد الكون.

 طراز الفكر الروحاني هو عمل مستمر يجري في عروق السالك مجرى الدم،  والعائق الأكبر لهذا العمل هي العادات والتقاليد القديمة التي ترمي للمادية. فالبيئة التي يشب فيها الإنسان تصبح عادات وتقاليد العائلة والقبيلة ، ويكون أمناء هذه العادات هم الوالدين ، الأخوة والأخوات، أفراد القبيلة والأقرباء جميعاً.

في المجتمع الإنساني يصنف الناس إلى  فئتين:

١) الذين يعيشون التقاليد الموروثة ويتمسكون بها ولا يبالون لما يجري في العالم ولماذا يحدث؟ فيكفيهم أن ما يقومون به ويعتقدونه هو نفس ما قام به وآمن به آباءهم وأجدادهم.

٢) الفئة الثانية من الناس تفكر في سبب ما يحدث وما هو الصواب وما هو الخطأ ؟

 كان مشركو مكة يعلمون بأن أناساً مثلهم قد نحتوا الصخور ليصنعوا أصنامهم الـ(360) ، وأنها لا تتحدث ولا تسمع كالبشر.......... لكن غلبة سيطرة العادات والتقاليد العائلية عليهم جعلتهم يتخذون تماثيلاً من قطع الحجارة الجامدة بمثابة آلهة لهم. ولم يكونوا يعبدونها فحسب بل لم يكن بوسع أحد أن يبين حقيقة هذا الأمر أو يبدي استنكاره نحو عبادة تلك الأصنام ، حيث كانوا يلحقون به أشد العقاب ويتباهون بصنوف العذاب المشينة .فالمحيط المغمور بتقاليد القرون السالفة وغبار الجهل جفف ينبوع الفهم من داخلهم.

ولنضع أمامانا أطفالنا كمثال : حينما نفصل الأطفال عن بيئة الجهل وندخلهم البيئة العلمية .....فنحن في الواقع نعلن بذلك ثورتنا على الجهل ونلحق الطفل بالمدرسة(أي البيئة المتحررة من الجهل).

 وليتم الطالب الصف الأول ثانوي يحتاج إلى عشر سنوات دراسية. وباحتساب عدد الساعات التي يقضيها الطالب في الدراسة نجد أنها 3500 ساعة في السنة الواحدة ، وهي المدة التي يحتاجها طفل ليتعلم العد إلى الـ (100).

بإنهاء الصف الأول الثانوي يكون الطالب قد صرف  35 ألف ساعة وآلافاً من الدنانير. بذلت الأم  قصاري جهدها في هذه الفترة ليركز ولدها في الدراسة ، وأولى الأب الاهتمام بألا يحدث تقصير في تعليم ابنه ، بالإضافة إلى تنبيهات ونصائح الأخت له ومساعدة الأخ أخاه في دراسته. بعد هذا التوجه والرعاية الفائقة من الجميع يتم الولد المرحلة الثانوية.

ولم تبدأ الدراسات العليا بعد، فبعد الثانوية تتفتح الطرق لأي مجال على المرء أن يسلك قدماً ليصبح هذا الولد طبيباً أو مهندساً أو محاسباً أو طياراً أو صانع آلة وغيره....

 بعد مرور 10سنوات لا يغدو المرء عالماً إنما فقط استعد ذهنياً لدراسة وتحصيل العلوم المادية المرموقة.... هذا هو الحال بالنسبة إلى العلوم الدنيوية.

أما في الجانب الآخر تكون العلوم الروحانية :حيث يخصص المرء بصعوبة ساعة واحدة فقط أسبوعياً وبهذه الطريقة يكون قد صرف أربع ساعات شهرياً و٤٨ ساعة سنوياً إلى جانب قضائه أشغاله المادية من ذهاب للعمل والانهماك فيه ، الزواج ، وغيرها من الأمور.كما ويظل متصلاً ذهنياً بالعادات والتقاليد القديمة وبالبيئة المحيطة به.

بعد قضاء 48 ساعة فقط في السنة الواحدة كيف للمرء أن يفكر في أنه لم يحصل على شيء أو يتمتع بلذة الكشف أو يطلع على ما فوق الفطرة ؟!!وهو ما يعني أن أهمية الروحانية قللت لتصبح أقل منها للصفوف الابتدائية للعلوم الدنيوية.

 فالطالب بعد قضائه ٣٥٠٠ ساعة سنوياً لمدة عشر سنين يصبح مؤهلاً فقط لاختيار مجال تخصصه في الدراسات العليا فكيف له أن يسوغ لنفسه تمني بلوغ  الروحانية بقضاء ٤٨ساعة فحسب؟

إن طراز فكر المعلم الروحاني فريد من نوعه مختلف عن طراز الفكر السائد في المحيط المادي المحض. فهو يمتاز بالتوكل والاستغناء وعدم طلب الدنيا ، ويكون التوحيد مركزاً له.

من الضروري لطالبات وطلاب دراسة العلم الروحاني أن يملؤوا باطنهم بالهمة والعزيمة لتفادي الأفكار السلبية الشيطانية والتقاليد الغير إسلامية..... وأن يسيروا قدماً على الصراط المستقيم بمزاج ثابت مقتفين نقوش خطى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ويهزموا الطاقات الطاغوتية وجل طغيان النفس في سبيل الظفر بالعرفان الإلهي.

إن الصفحات القادمة من هذا الكتاب تجمع بين طياتها جوانباً من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بينا فيها طراز الفكر الإيجابي الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم نشره ، والعقبات والعراقيل التي وضعها ممثلو الشر في وجه كل خطوة من خطواته.

 في طريق التوحيد لإبعاد هذه العوائق عاش الرسول صلى الله عليه وسلم حياته في معاناة ، وتحمل الأذى الجسدي والذهني. لكن في النهاية نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى إلى  عباده ورضي الله عنه وأرضاه.

لابد لأفراد السلسلة العظيمية  المعينون لتسيير المهمة الروحانية من مطالعة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطيبة وقراءتها مراراً وتكراراً ، والتفكر فيما عاناه وتحمله الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى لأجل إشاعة المهمة ونشر الوحدانية وإدخال الكفار في حلقة ونطاق التوحيد.

بجعل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نبض قلوبنا فإن مدد ودعم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  سيكون معنا في كل خطوة نخطوها في طريق نشر تعليمات السلسلة العظيمية وإشاعة العلوم الروحانية وإيصالها للنوع الإنساني...وبلا شك  سنفلح في الدنيا ونسعد في الآخرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنتمكن من اتخاذ خطوات جريئة ومواجهة الظروف القاهرة  المحطمة للقلب والإعراض عن افتراءات الناس واتهاماتهم.

قبل وفاة حضرة قلندر بابا أولياء(رحمه الله) خاطبني قائلاً:

السيد/خواجة..

ناشرو المهمة يتصفون بالجنون..

هل فهمت ما قلت؟

فرددت عليه: سيدي!وفقاً لما تريد واضعاً تعليماتك نصب عيني سأعمل للسلسلة كالمجانين.

فرح قلندر بابا أولياء (رحمه الله) لدى سماعه ما قلت ووضع يده فوق رأسي ثم راح يرسم دوائراً  بأنامله على جبهتي  وبعدها نفخ عليّ وقال: ليحمك الله وينصرك.

في طريق تقدم  المهمة  مالم ينج الإنسان من شتى أنواع المصالح الدنيوية  من  الجشع والتوقع ، الحسد ، الطمع، الكبر والتغطرس، الإحساس بالعظمة أو النقص،  الغرور ، لن يتولد فيه جنون المهمة.

إن هذا الكتيب المختصر يلقي الضوء بإيجاز على قسم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بذل فيه جهوداً جبارة  في تبليغ الدين لمدة  ثلاث وعشرون سنة. وأن حياته من ولادته الشريفة إلى بلوغه الأربعين من عمره تعد مشعلاً في طريق السالكين.

إننا كنساء ورجال السلسلة العظيمية الذين تقع على أكتافنا مسؤولية تعميم تعليماتها بلا شك محظوظون وسعداء بهذا الشرف.

 

ولحفظ هذه السعادة والشرف وتأدية شكرها يجب علينا  أن نطالع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخية مراراً وتكراراً . هذا العمل سيمدنا ويولد بداخلنا اليقين والقوة والعزيمة التي ستدفعنا للسير

خواجة شمس الدين عظيمي

مركز المراقبة الرئيسي ، سرجاني تاون كراتشي

١٢ ربيع الأول ١٤١٧ هجرية   /الموافق ٢٩ يوليو ١٩٩٦ ميلادية

قدماً.



[1]   سورة العصر : الآيات 1-3

[2]  سورة التين : الآية 5

[3]  طراز الفكر: نمط التفكير