Topics

موجات الخيالات والأفكار

تتحول موجات الأنباء في الذهن الإنساني إلى خيالات. ترمي الحجارة على وجه الماء الراكد فتنشأ موجات دائرية نتيجة لذلك. فكذلك تتكون موجات الخيالات نتيجة للبلاغات. وسطح الذهن كالبحيرة التي تنشأ فيها الموجات. والذي يلقي النظرعلى سطح البحيرة الساكن ينكشف له ماتحت الماء. وأما إذا ثمة موجات على سطح البحرفإنه لايشف عما تحته. فتلتبس الصورلهذه الموجات.

ولوتأملنا في الليل والنهار لتبين لنا بوضوح. فنستيقظ في الصباح فيخطر بأهاننا خيالُ مقرِ العمل أوالمحل التجاري. فنعد أنفسنا تحت ضغوط ذلك الخيال ونتوجه إلى مقر العمل أوالمحل التجاري. وتمر بنا آلاف المناظر في الطريق، وتقرع آذاننا أنواع من الأصوات ، منها ما يستوقفنا ويسترعي انتباهنا، فإذا نظرنا إلى حدث وقع، ترك ذلك بصمات على الذهن، وإذا صادفنا لوحة جديدة لم نتجاوزها حتى نقرأها. وتصبح الشؤون التجارية نقطة التوجه والعناية حين نصل إلى المكتب أوالمحل التجاري.

ثم يحل مكانها الشؤون العائليه حين نعود إلى البيت، فإذا قضينا شؤون البيت مالت النفس إلى النزهة والتفريح عن النفس. فنتوجه إلى قريب أوصديق. وننصرف إلى قراءة رسالة أوكتاب أو ننتفرج على التلفاز حتى نمسي ويدخل الليل فنأوي إلى الفراش و ننام. ويطلع اليوم الجديد بمثل هذه الأشغال والحاجات كذلك.

ولوركزنا على وقفة لتبين لنا أن عنايتنا لاتتوقف عند نقطة من النقاط أكثرمن لحظات. وتتغير الخيالات وتتغير معها نقاط ومراكز العناية والتوجه. فإذا تصورنا الحزن و الهمَ بدأنا نفكرفيه ، وإذا تصورنا الفرح أخذ الذهن يسبح في عواطف الفرح. وإذا تخيلنا حدثا من الأحداث تركز الذهن عليه يتأمل في جزئياته.

والاستعراض لجميع الأشغال الذهنية يفيد أن الذهن ينهمك في أوضاع الشؤون المحيطة به كل وقت. فتنقضي لحظات اليقظة في خضم مثل هذه الأشغال والأعمال الحافلة . وتهجم الشؤون المحيطة بنا واحدة بعد أخرى. ولايأتي علينا وقت ينصرف توجهنا وعنايتنا عن موجات الخيالات. وخضم هذه الخيالات يشكل حجاباً للمرء؛ لأن التموج يعوق دون انصراف الشعور إلى الحياة الباطنة. فلاينعكس له ما بداخله.

والانعكاسات التي تقع على سطح الذهن تتعمق أوتضمحل نظراً إلى انفعاله و تأثره. فالانعكاسات البالغة الاضمحلال لاتسترعي الانتباه فتختفي وتتلاشى. ولايمكن الاطلاع على الذهن ومعرفة ما بداخله ما دامت المركزية الذهنية متعرضة لموجات الخيالات. وأما إذا انصرفت العناية عن الخيالات الناشئة على السطح فإن النظر يفعل فعله في الحياة الباطنة وتتجلى الانعكاسات المضمحلة التي لاتكاد ترى في عموم الأحوال.

وتفصيل هذا الإجمال أن العلوم الباطنة والصلاحيات الكامنة يتطلب تحصيلها انصراف الذهن وهدوءه. وأول الكيفيات والصلاحيات التي يتم تنبيهها ليتسنى الحصول على العلوم الروحانية وتعليمها ـ يطلق عليه بشكل عام: "خلوالذهن". وخلو الذهن يعتبر أول درس للعلوم الروحانية. وحين يتصف الطالب بهذه الصلاحية فإنه يتجرد عن الخيالات الدنيوية ويشاهد العالم الروحاني.

ولايعني خلو الذهن عدمَ ورود خيال إلى الذهن، وإنما يعني ذلك تركيز التوجه على نقطة تركيزاً يحول دون إيراد المرء خيالاً آخر بإرادة منه وقصد. وقد يعرف خلو الذهن بتعريف آخر هو صرف الذهن عن الخيالات كلها وتركيزه على خيال واحد تركيزاً يجعل سائرالخيالات شيئاً لايوبه به. ونواجه مشاكل ومتاعب حين نحاول إخلاء الذهن؛ لأننا لم نتعود خلو أذهاننا. ونتمكن من ذلك بالتمرين الدائب المستمر. واصطلحوا على إطلاق المراقبة على خلو الذهن. وحالة خلوالذهن تتجلى كل يوم في أعمال عديدة.

مثال:

نجلس لنكتب مقالة والورق بيننا والقلم بأيدينا والذهن يختارالكلمات وينتقيها. و ثمة أمور وأصوات تحيط بنا مما يسترعي انتباهنا في عموم الأحوال، ولكن في هذا الوقت بالذات لانصرف انتباهنا عن المقالة، ولايدور فكرنا وعملنا إلا حول نقطة واحدة. ومن الأمثلة العناية الزائدة أن العناية تتركزعلى الخيط وسمه حين ندخل الخيط في السم ، وتستمرهذه العناية عليهما إلى أن يدخل الخيط في سمه.

وقس عليه قيادة السيارة حيث نصرف كافة قوانا الذهنية إلى المرور وحركة السيارة حين نقودها، وبالتالي تسيطرأعضاء الجسد على السيارة. ونحاول كل المحاولة خلال قيادة السيارة أن ينصرف عنايتنا إلى الطريق. ورغم أننا نتحدث أحيانا مع الجالس بمقعد الجوار ويرد على أذهاننا شؤون أخرى غير العناية القصدية لاتنصرف عن عملية القيادة.

ونحواً من هذه الهيئة والكيفية يحاول المراقب ـ باختيارمنه ـ أن يفرض على نفسه خلال المراقبة. فيركزتصوره أوخياله على نقطة واحدة عشردقائق أوأقل أوأكثرأو ساعة أوساعتين. ويقطع صلته عن سائرالشؤون. وبعبارة أخرى: المراقبة عبارةعن الفناء في خيال واحدعن سائر الأخيلة.

ويسلك المراقب في التدريب عليه أوحال المراقبة جميع السبل التي تقطع الذهن عن جميع الدواعي الخارجية التي تغرقه في النقطة واحدة. وحين تنقطع البلاغات عما حوله فإن الدواعي الخافية تبدأ في الظهور والبروز فبهذه القدرات والصلاحيات ـ التي يطلق عليها القدرات الروحانية ـ يبصرالإنسان ويسمع ويلمس ويمشي ويقوم بأعماله كلها. وشرحه مولانا الرومي بقوله : شعرمعناه

العين مغمضة، و الأذن مقفلة، و الفم مسدود

إذا    لم    ترسبيل    الحق     فاضحك    علي


المراقبة

خواجۃ شمس الدين عظيمي

 السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.