Topics

عيسى عليه السلام

واعتزل عيسى في مفازة أربعين يوماً. فوسوس له الشيطان في إرادته، وعرض عليه جانب الطمع والنفع، وحاول أن يمنعه عنه. ولكنه لم يلقِ له بالاً حتى أخذت رحمة الله تعالى وعنايته تتوجه إليه ، وتنزل عليه. وفي إنجيل مرقس: "وفي تلك الأيام قدم عيسو من ناصرة في نغليل إلى اليرود وتعمد، فلما خرج من الماء وبرزعنه رأى السماء تنشق والروح ينزل عليه كاليمامة .... وعلى الفور أرسله الروح إلى المفازة ، وصارع مع الشيطان في المفازة أربعين يوماً، وعاش من الوحوش وخدمته الملائكة ".

 والأمر الأساسي الذي يتبين ـ سواء من اعتزال مريم، أو اختلاء موسى أو عيسى ـ أنهم قطعوا صلتهم الذهنية عن العلائق الظاهرة والشؤون الدنيوية لمدة من الزمان. وانصرفوا كلياً إلى عالم الغيب بهدوء البال.

لنستعرض الآن كيف تناول الإسلام المراقبة ؟ وما منزلة المراقبة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

غار حراء:

لقد شهدت حياة النبي صلى الله عليه وسلم تحولا كبيراًحين اعتزل في غار حراء على بعد نحو ثلاثة أمثال من مكة، واختلاؤه هذا كان أمراً عارضاً لامستمراً. فكان يرجع إلى مكة بعد قضاء أيام أو أسابيع في غار حراء. ويختلط بأهله، ويقضي حوائجهم، ويلتقي بأقربائه وأصدقائه. ثم يرجع إلى غار حراء، وكان يحمل معه زاده . وهو السويق والتمر والماء فحسب.

ولايخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتجه إلى غارحراء للهدوء والطمانية النفسية ((concentration). وتقول العلوم الروحانية : إنه كان يراقب في غار حراء. وكان ذهنه يرتكز دائماً في حقيقة الكون وذات الله تعالى. وحين بلغت هذه المركزية إلى ذروتها شاهد الغيب. فأول ما نظر : هو  الملك، وتمثل له سيد الملأ الأعلى وهو جبرئيل عليه السلام. وابتدأت التوجيهات عن طريق جبرئيل ، ثم نزلت عليه التوجيهات الإلهية مباشرة. كما يشير إليه قصة المعراج: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) [الإسراء/1]

وقال : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)) [النجم/5ـ 11]

التوجه إلى الله تعالى:

انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من المراقبة في غار حراء فتلقى أمراً إلهياً آخر . قال تعالى في سورة المزمل: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)) [المزمل/1ـ5]

وفي الليل حين تضمحل الحواس الظاهرة، وتميل الحواس الباطنة إلى اليقظة، يقوم النبي صلى الله عليه وسلم قياماً طويلاً حتى تتورم قدماه.

وهذا القيام ـ مع الهدوء النفسي واليقظة الجسدية ـ من شأنه أن يزيد ـ قوةً ـ العلاقةَ مع  عالم الغيب ومع الله تعالى مما كان يحظى به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن جملة الأحكام التي وردت هذا الحكم: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [المزمل/8ـ9]

ويطلق على هذا السعي لصرف كافة الميول الذهنية إلى الله تعالى ـ "مراقبة الذات" في اصطلاح الروحانية . وصرح القرآن في غير موضع بأن العلاقة مع الله هي جوهر العبادات والرياضات كله و لبها ، سواء كانت صلاة أوزكاة أو حجاً أو ذكراً إلهياً، أو غيرها من التطوع . ويقول القرآن الكريم عن هؤلاء النفوس الزكية الذين عقدوا صلتهم مع الله تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور/37]

ووضع الدين هيكل العبادات مع مراعاة حاجات الإنسان الجسدية والروحانية معاً، والعلاقة مع الله ، وذكره، وتصور أن الله تعالى حاضر وناظر، وإقامة الصلاة، ونفي الذات، والإيمان بأن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي، والصوم، والتوكل على الله؛ إذا تأملنا في كل ذلك فإنه يتبين لنا بأن هذه الأعمال و الأفكار تعين على إبقاء المركزية الذهنية على نقطة واحدة. وهذه النقطة هي ذات الله تعالى. وهي الحقيقة الكبرى لهذا الكون.

و وضع الدين قواعد من الفرائض للرجوع إلى الله وتزكية القلب والباطن، ثم ترك الأمر للإنسان  الخيار في التطوع ـ بجانب الفرائض ـ يقوم بما استطاع إليه سبيلاً ، فالقيام في التهجد، والذكر ، و تلاوة القرآن الكريم، وصيام التطوع، كل ذلك عبارة عن السعي لتحقيق هذا الهدف النبيل. وروح العبادات كلها هي التفكر في الأعمال والأشغال. وإذا  تم التركيز على تنشيط الفكر وتقويته، فإن الخيالات الفاسدة تضمحل وتفتر. ويتعمق التوجه إلى الله تعالى. ومن تحقق له الاستغراق في العبادات نال ثمرات العبادات كلها.

الصلاة والمراقبة :

منح النبي صلى الله عليه وسلم ـ مثل سائرالأنبياء ـ أمته دستوراً للأحكام والعبادات بأمر ربه. و هذا الدستور يراعي ـ كل المراعاة ـ تيسير العمل على كافة طبقات الناس ومستواهم. وبالتالي يتعاقب انعكاس التعلق مع الله على وجه الشعور. و أهم أركان الإسلام ـ بعد كلمة لاإله إلاالله ـ هي الصلاة. والصلاة تورث المرءَ تصورَ الحضور أمام الله تعالى. ويتعود المرء التوجه إلى الله تعالى إذا كرر هذا العمل مرات . وضمنت الصلاة كافة حركات الحياة حتى لايفارقه تصور الله تعالى في عمل من أعمال الحياة يقوم به المرء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة : (أن تعبدالله كأنك تره فإن لم تكن تراه فإنه يراه) وذلك في الصلاة.

يشير قوله صلى الله عليه وسلم هذا إلى أن القصد من وراء الصلاة هو الرجوع الذهني الكامل إلى الله تعالى.

فالصلاة ليست عبارة عن مجرد تحريك أعضاء محددة، وتكرار ألفاظ بعينها. فالقيام والركوع و السجود والتلاوة في الصلاة من وظائف الجسد، والرجوع إلى الله وظيفة الروح. والصلاة في هيئتها التركيبية تشمل الحركة الجسدية والفكرية معاً. وكما أنها تستلزم الأعمال الجسمانية كذلك التصور و التوجه إلى الله من لوازم الصلاة. والقيام بهذين الجزأين بكامل التوجه والعناية ، والحفاظ عليهما، هي إقامة الصلاة. ولنا أن نقول ـ في ضوء تعريف المراقبة الذي أسلفناه في الأبواب السابقة ـ : إن الصلاة مراقبة يتصور فيها حضور الله تعالى بالإضافة إلى الحركات الأعمال والحركات الجسدية. وحين يقيم المرء الصلاة مراعياً للآداب والقواعد السالفة الذكر فإن باطنه يزخر بالأنوار الإلهية. وذخيرة الأنوار هذه مما يؤدي إلى الطيران الروحاني.

الذكر والفكر:

ويحتل الذكرمكانا هاماً في آيات القرآن الكريم والتوجيهات الدينية. وتواترت نصوص القرآن والسنة في تعليم الذكر. وأطلق الذكر على الصلاة. وأشير إلى أن هدف الصلاة ذكر الله تعالى بها.

والذكرلغة: هو التذكر، ويطلق على التذكير أيضاً. لأن التذكرة إبداء ذكر أحد. وحين يذكر المرء اسم أحد فإن هذا العمل يقيم علاقته الذهنية مع المذكور. والتذكر والذكر باللسان بعضه من بعض. ولا يعز أمثلة عليه في الحياة العادية. فمن كان على علاقة قلبية مع أحد، فإنه يعبر عنه بذكره باللسان ؛ بل يغلب خياله على قلبه.

والتوجيهات الدينية مرجعها إلى ذات الله تعالى. وهدف الدين عقد علاقة الإنسان القلبية مع الله تعالى، وإحكامه إحكاماً يشاهد القلب معه الله تعالى. وعليه ربطت كافة الأعمال والأفعال ـ سواء كانت جسدية أو فكرية ـ بذات الله تعالى، ليحيط تصور الله تعالى بالذهن عن وعي وغير وعي. ويلعب الذكر دوراً بارزاً في تحقيق هذه الكيفية. والذكر لايهدف إلا إلى أن يرتسم الله تعالى على الذهن بالإكثار من ذكره سبحانه.

وأول منازل الذكر أن يعاد ـ بكثرة ـ اسم من أسماء الله تعالى أوصفة من صفاته. و يستمر ذهن المرء ـ في قليل أوكثيرـ على هذا الخيال، ما دام مكباً على هذا العمل ومنصرفا إليه. ولو انصرف الذهن مؤقتاً عن الذكر، ولكن حركة الذكر الميكانيكية لاتدع الإرادة اللاشعورية تنصرف عن الذكر. وأطلق أهل الروحانية على هذه المنزلة : الذكر اللساني. أي إقامة الخيال والتصور على ذكر الله تعالى مع إكثار اسم من أسماء الله تعالى باللسان.

ويرتسم نقش واحد إذا ما استمر المرء على تكرار اسم من الأسماء بشكل متواصل . ويزداد الارتكاز الشعوري. ويتمرن الذهن على إبقاء الذهن على خيال واحد. فإذا حصل ذلك استثقل الذكر أداء اللفظ باللسان، وينشرح صدره بتكرار اللفظ في عالم الخيال. فينصرف عن الذكر اللساني إلى الذكر الخفي. ويطلق على هذه المنزلة "الذكر القلبي".

ثم يأتي عليه مرحلة يستثقل فيها المرء تكرار الاسم خفيةً كذلك، بل يغلب عليه خيال ذلك الاسم، ويستغرق خيال ذلك الاسم في عالم التصور بكيفيته الوجدانية كلها. ويطلق على هذه الكيفية "الذكر الروحي". ويطلق عليه أيضاً: "المراقبة". والمراقبة هي إنشاء تصور الله تعالى إنشاءً يمنع التوجه من أن ينصرف عن الله تعالى .

ولمزيد من التوضيح نعيد بيان الذكر بصورة مجملة ، وهو أن المرء إذا ذكر اسم القدير، فيقرأ اسم القدير بلسانه في المرحلة الأولى. وفي المرحلة الثانية يؤدي اسم القدير في عالم الخيال خفيةً، دون أن ينطق بلفظه بلسانه. وفي المرحلة الثالثة: يستغني عن تكرار اسمه في الذهن بل يستولي اسم القدير متمثلاً في الخيال والتصور على ذهنه. ومرحلة الذكر أوصفته هذه ـ التي يتصور فيها المرء المعاني ـ يطلق عليها المراقبة. ووجوه الذكر كلها تهدف إلى خلق صلاحية في الذكر لأن ينجذب توجهه في اسم من الأسماء.

وأول شيء يقوم به الذاكر في المراقبة هو عقد الخيال والتصور. ويستولي هذا الخيال على شعوره مع كافة الأفعال الذهينة والجسدية . فيكون على علاقة مستمرة مع الله تعالى. ولايمضي عليه وقت لايطرأ عليه كيفية المراقبة. وحين تتحول كيفية المراقبة هذه إلى جزء من شعوره فإن روح الذكر تصعد إلى عالم الملكوت. ويحظى بالكشف والإلهام.

أديان العالم:

وأوسع الأديان السائدة في العالم أربعة: النصرانية، والبوذية والإسلام، والهندوسية. وتحتل المراقبة مكانة بارزة في توجيهات هذه الأديان كلها أو في حياة أصحابها ومؤسسيها. وأسلفنا مراقبة المسيح في الحديث عن النصرانية . وأضاف عيسى قائلا: "إن ملكوت الله في نفسك، فالتمسها فيها".

واشتغل موسى في التفكر والتدبر (المراقبة ) أربعين ليلة في الطور.

وسبق ذكر المراقبة في الإسلام وفي حياة محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء.

و"بهاغافاد غيتا "كتاب مقدس عند الهندوس. ويتضمن "غيتا" مكالمات السيد كريشنا جي والملك أرجونا التي أجراها أرجونا مع كريشنا جي قبل الملحمة الكبرى "المهابهاراتا". ورد عليه كرشن جي كما يفيد "بهاغافادغيتا".

قال الملك أرجونا لكريشنا: إنك تتحدث عن السيطرة على القلب (المراقبة) وتتحدث عن معرفة النفس، ولكني أجد ذهني شارداً شروداً كثيراً.

قال كريشنا: صحيح، ولكن يمكن الاتصاف بالهدوء الذهني عن طريق ممارسة الوسائل المناسبة وممارسة الاستغناء ومواصلة المراقبة.

واليوغا مأخوذ من الهندوسية. وذكر "الأب نجلي مهارشي "في كتابه "يوغا سوترا " فلسفة اليوغا . تجمع تمرينات "اليوغا" بين الرياضات التي تعيد إلى الجسم الصحة، وتفاصيل عن المراقبة الهادفة إلى تنشيط الصلاحيات الروحانية .

و"اليوغا" كلمة سنسكريتية، معناه : الاتصال أو الوصال.

ومعني كلمة "آسن" القعود.

والمراد بـ "يوغا سوترا" الرياضة.

وعدد آسن اليوغا 84. وتم تحديد معظم آسن اليوغا بالنظر إلى حركات الحيوانات.

ورياضات اليوغا تزيد القوة الدافعة الجسدية للأمراض الجسدية وتبعث في الروح الحيوية.

وتحتل المراقبة مكانة سامية في حياة "مهاتما بوذا". حيث هجر "بوذا" حكومته وخرج يطلب المعرفة و الحق، فقام برياضات شاقة طوال ست سنوات. وفي نهاية المطاف جلس يراقب تحت ظل شجرة ظليلة في مدينة "غيا" (gaya) فاشتغل بوذا في المراقبة أربعين يوماً طلباً للحق. وأخلَّت به القوى الشيطانية في أشكال عديدة ، ولكنه ثبت وثابر. وتقول الرواية إنه نال "كيان" (المعرفة) في الليلة التاسعة والثلاثين. وتجلى له نور المعرفة. وتزكية الفكر والمراقبة تشكل النقطة الثامنة من النقاط الأساسية في توجيهات "مهاتما بوذا".


المراقبة

خواجۃ شمس الدين عظيمي

 السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.