Topics

أقسام المراقبة

لقَّن حذاقُ المراقبة أصحابهم وجوها من المراقبة. وهذه المراقبات تشكل فصولاً دراسية للطالب في سبيل الرقي الروحاني، لتستيقظ الصلاحيات الروحانية واحدة تلو أخرى في مراحل. وحين يتكمن الطالب من وجه من وجوه المراقبة فإنه يتم تقديمه إلى المرحلة التالية.

وتتعين أقسام المراقبة المختلفة وأهدافها على أساس التصور المعمول في المراقبة. ويؤمر بمراقبة كشف القبور ليشاهد الطالب في الدنيا عالَم ما بعد الموت. وإذا أريد تقوية جسم النور تمت ممارسة مراقبة التعليم. كما تمارس مراقبة النور لمشاهدة النور. وإذا أريد ترسيخ فكر الشيخ الروحاني وصفاته في التلميذ أمِر بتصور الشيخ.

والحاصل أنه يلقن التلميذ مراقبات مختلفة توافق طبعه وصلاحيته وحاجته. ولايعين ذلك إلا شيخ حاذق متكامل، قطعَ منازل المراقبة علماً وعملاً.

وتكثر أقسام المراقبة بالنظرإلى الفرق في التصوروالعمل، وعليه يتناول هذا الباب من وجوه المراقبة ما يتصدرقائمتها أهمية. وأما الوجوه الأخرى فتكاد تكون فروعاً لها بصورة أو أخرى.

ووضع برنامجٌ عملي لكل مراقبة إلا بعضها، ليستفيد كل واحد الفوائد العامة و الخاصة بالاستعانة بهذا المخطط التعليم أو البرنامج.

ومن برامج المراقبة ما يختص بأهداف خاصة، مثل مراقبة كشف القبور، ومراقبة الهاتف الغيبي، ومراقبة الحصول على الهدوء النفسي وغيرها. ومن الممكن إيقاظ صلاحية خاصية أو الحصول على فائدة بعينها بالعمل بهذه البرامج. والمراقبات الأخرى تحرك حواس الإنسان الباطنة. وتوقظ العين الثالثة فيها بنمط خاص.

توضيح:

ولوحظ في وضع البرنامج ذهن الطالب المتوسط، و وضع وضعاً يُعِين على الرقي بالإضافة إلى التحاشي عن الضغط على ذهنه، ورغم ذلك كله عزمت الإدارة على مل ء فراغ الأستاذ. فيقوم الطالب بإعداد تقريرعن وارادته وكيفياته وإرساله كل شهر، ليتم توجيهه إذا احتيج إليه.

وجعلنا نصب أعيننا ـ حين وضع البرنامج ـ الأهداف الآتية:

1.      تحسين الدماغ وعمله.

2.      زيادة القوى الذهنية الخاصة من الذاكرة والقوة المتخيلة والقوة الإبداعية وسرعتها.

3.      إيقاظ الصلاحيات الباطنة من (telepathy ) والكشف ونحوهما.

4.      جلاء قوى التفكير والوجدان.

5.      تنشيط بصارة الطالب الروحانية أوعينه الثالثة.

1.                  يراقب لمدة عشر دقائق إلى عشرين دقيقة مع مراعاة موعدها. ولاداعي للتثبط إذا لم يتم النجاح . فإن النتائج والفوائد تتوقف على استقلال الطالب وحرصه. فمن الطلاب من يتقدم بخطى بطيئة، وتعتدل سرعةُ الترقي بفضل المداومة على التمرين. و من الطلاب من يتقدم في أول المرحلة سريعاً، ثم تخف السرعةُ فيمابعد. ومنهم من لايحرز في البدء تقدماً يذكر، ثم يسرع سرعة كبيرة في المستقبل. والحاصل أن مدارج الرقي تتفاوت تفاوت الطباع. والأصل أن ما يدخل في الطبيعة بشكل تدريجي يكون أرسخ وأحكم.

2.                  ولاتعني الرغبة والشوق أن يدخل تعديلاً من قبله في البرنامج ، أويتجاوزه . وإنما القصد منها أن يقوم بالمراقبة والتمرينات الأخرى كما تم تحديده في البرنامج بكل جد.

البرنامج العملي:

لو رأيت أحدا يراقب لرأيت فيما يبدو رجلاً قاعداً مغمض العين. وهذا من لوازم المراقبة الجسدية، أي كيف يجلس حين المراقبة؟ وما الجو المطلوب له؟ والأصل في المراقبة جانبه الذهني. ومراعاةً للموضوع نتحدث عن الجانب العملي للمراقبة. والمراد من الجانب العملي: كيف تتم المراقبة، وما يلزم مراعاته فيها .

وصفة المراقبة: أن يغمض المرء عينيه، ويحرر ذهنه من كافة الخيالات والأفكار. و ينصرف إلى خيال أوتصور انصرافاً يقطع رغبته وعلاقته الذهنية عن سائر الخيالات. وثمة أمران هامان في المراقبة: أحدهما تجردالذهن، وثانيهما: التصور الذي يمارس في المراقبة. و معنى كونه في الذهن أن لايورط نفسه في تصور وخيال ما، ولايفكر بإرادة منه وقصد في شيء. ويمكن أن نطلق على هذه الكيفية "نوعاً من قلة الاكتراث".

وتمارس المراقبة بوجوه مختلفة، وتنقسم المراقبة نظراً إليها على أقسام.

ونُتبع تعريف المراقبة تفاصيل أخرى تخصها.

الجلسة:

تتطلب المراقبة جلسة مريحة وهادئة،لتخلو الأعصاب من التوتر،ولايشعر الجسد بالتعب والإرهاق.

ويمكن اختيار جلسة من الجلسات التالية للمراقبة،تناسب وضع الجسد والميول الطبيعية.

1.      التربع:

أن يجلس على الأرض أو السريرويضم رجله اليسرى ويدخلها في فخذه اليمنى،و يضم رجله اليسرى ويضعها على الفخذ اليسيرى.ويقيم ظهره وعموده الفقري، دون أن يتمدد تمدداً يوترالأعصاب. ولا أن ينحني انحناء يميل بظهره. ويضع يديه في هذه الجلسة على ركبتيه. ولك أن تضع يديك في الحضن.

2.      الجلوس على الركبتين:

ومن صعب عليه التربع،يجلس على ركبتيه جلسة الصلاة،وتستلزم هذه الجلسة كذلك ـ عدم انحناء الظهرولا تمديده، بل يجب أن تكون جلسة مريحة لاتشعر معها أعصاب العنق والظهر بالضغوط.

3.      جلسات أخرى:

ومن صفاتها أن يجلس على وركه، ويضم رجليه ويقيمهما، ويجعل بيديه حلقة فوق ركبته أوحول ركبته. ويكون الجسد مائلاً بعض الشيء إلى الأمام. وتمكن هذه الجلسة الإنسان العادي من المراقبة الطويلة دون شعور بالتعب. ومن هذا النوع من الجلسات جِلسة أخرى صفته:

أن يجلس على وركبتيه معتمداً على الأرض، ويقيم رجليه بحيث تكون الساق اليسرى على الساق اليمنى ويلامس أخمص الرجلين الأرض. ويأخذ ثوباً ليناً متيناً يطوق الظهره  ويجعله حلقة حول الركب ويعقده عقدة في الأمام. ثم يترك جسده حراً بعد العقد. وأما مدى قطر الثوب ومكان التحليق به حول الظهر فيرجع الأمر في ذلك إلى المرء نفسه. والحاصل أن لايحصل تعب في الجلوس، ويمد يديه بإزاء الرجلين ويضعهما أمام الكعبين.

ولامانع من المراقية على الكرسي. ولكن مما يجب ملاحظته أن يكون الظهر مستوياً، ولايعتمد على الظهر اعتماداً يجلب عليه النوم. ولامانع من المراقبة على السرير والأريكة والكرسي المريح على هذه الجلسة. وإذا جلس على السرير أو الأريكة فليجعل في حضنه وسادة ويضع يده عليها خشية يخل ذلك في الهدوء النفسي.

ومن المراقبات ما تتم بالاضطجاع على الظهر، ولكن يعيب المراقبة مضطجعاً أنه يجلب النوم على الذهن ويغلِّبُه عليه، وصفات المراقبة هذه من المستثنيات. وإلا فعامة المراقبات تمارس جلوساً. والمراقبة جلوساً ييسرعلى المرء استجلاب الهدوء النفسي.

الأماكن والمواعيد:

كلما كان الجو ساكنا وهادئاً ومنعشاً كان أكثر جلباً للانهماك والهدوء في المراقبة. و يستحسن أن يراقب في مكان لايغلب عليه الحر الشديد ولا البرد الشديد فيؤذيه. وكلما كانت الأشياء قليلة حوله كان أخف على ذهنه. ويجب أن يراقب في مكان يدخله الهواء و يبعد عن الاختناق. ويجب العناية بالظلمة ما أمكن حين المراقبة. كما يجب إغلاق الأنوار، و تغطية النافذة إذا كان يمربها النور إلى وجهه. ولكن يجب التنبه إلى عدم قلة الأوكسيجن (OXYGEN).

ويفضل أربعة أوقات للمراقبة:

۞ قبل طلوع الشمس

۞ وسط النهاربعد الزوال

۞ بعد العصر

۞ بعد نصف الليل.

ففي هذه الأوقات يسود الهدوء الطبيعة. وتشهد الحواس البشرية الاستقرار، فتزداد المراقبة في هذه الأوقات نفعاً.

وتنفرد هذه الأوقات كلها بخصائص. ولكن تُفضَّل الأوقات التي بين غروب الشمس إلى طلوعها، ثم الوقت بعد العصرإلى أن يقرب الغروب. وذلك لأنه تتحرك في الليل الحواس التي تكشف عالم الغيب.

تسير الأرض سيرين: سيرمحوري، وسير طولي. وتخف دورة الأرض بعد الزوال، ولا تزداد تخف حيناً بعد حين حتى تخف عند العصرخفةً، تشعر الحواس بالضغوط. وتنفتح على الإنس والبهائم والطيور أبواب حواس الليل بدلاً من حواس النهار. ويشعر كل ذي عقل و فهم بأنه يطرأ عليه وقتَ العصر كيفية يسميها بالتعب والاضمحلال. وهذه الكيفية مبدأ الحركات اللاشعورية على الشعور.

وتغلب الحواس اللاشعورية بعد نصف الليل. وعليه كان ذلك خير أوقات المراقبة.

وتغلب الحواس اللاشعورية إلى ما قبل طلوع الشمس. فكانت المراقبة قبل طلوع الشمس أكثر نفعاً. وأعظم منافع المراقبة قبل طلوع الشمس أن نوم الليل يطرد آثار التعب طولا النهار واضمحلال الذهن. ويتمتع الإنسان بالهدوء عند المراقبة. وتستمرغلبة الحواس اللاشعورية بعد اليقظة لمدة، فتؤثر المراقبة في الذهن بسهولة.

ومعظم الناس ممن لايناسبه المراقبة بعد نصف الليل نظراً إلى جدول الأعمال و الأشغال الاقتصادية. فإن النوم يغلب عليه بعد تعب النهار. فيفضل له أن يراقب عقب طلوع الشمس.

    وأما مدة المراقبة فتتوقف على ما يتمتع به المرء من الكيفية الذهنية والهدوء النفسي. فقد تمتد المراقبة عشر دقائق إلى ساعات عدة. وربما لايشعر بمرور الوقت خلال المراقبة. فإذا أفاق منها وجد أنه قد تجاوز مدة المراقبة. وربما يستيقظ المرء من المراقبة أن مضي المدة المحددة. و لاتميل طبيعته إلى المراقبة. ومعدة فترة المراقبة ما بين عشرين دقيقة إلى خمس وأربعين دقيقة.

يجب صرف الوقت الذي حدده للمراقبة كاملاً غيرمنقوص. ابداً المراقبة بهدوء و اطمينان، وأعِدَّ نفسك للهدوء النفسي التام الكامل. كما أننا نركزعلى الاستفادة من كتاب من الكتب أشد ما يمكن، ونهيئ الجو الهادئ للمطالعة، كذلك المراقبة تستلزم العناية و الانهماك والهدوء.

ابدأ بالجلوس جلسة المراقبة ثم حَرِّر الذهن تحريراً كلياً، واهدأً ما استطعت إليه سبيلاً . ومن الممكن الحث عليه باستعانة بعض الكلمات منها:

"الجوهادئ ومستقر، ويسري الهدوء والاستقرار إلى نفسي كذلك ونحوه".

ويُسِرُّ بهذه الكلمات في نفسه، لتؤثر في أعماق القلب تدريجياً. فإذا اتصف الجسد و الذهن والنفس بالاتزان فليبدأ بالمراقبة.

العون المادي:

تستهدف المراقبة تحريك النظر الباطن. ولايتحقق هذا الهدف إلا حين تسكن حركات مقل العين سكوناً لامزيد عليه، أويتم تعطيلها ما أمكن. وكلما ازدادت مقل العين عطلاً ازداد النظر الباطن حركة ونشاطاً. ووفقاً لهذا القانون يمكن استخدام منديلاً أو ثوباً ذا أصواف لتغطية العين وشدها . ويحبذ أن يكون الثوب أسود اللون. كما يستحسن أن يكون الثوب ذا أصواف مثل المنشفة أو تستخدم منفشة ذات أصواف ناعمة. ويلاحظ عند شد العين أن تشتمل المنشفة أوالثوب على الأهداب وتحيط بها. ويحكم الشد ولايتركه خفيفاً، و لاشديداً يؤذي العين. والغرض أن تشعر الأهداب ببعض الضغط. وتتعطل حركة مقل العين بالضغط المناسب لدرجة معقولة. وفي وضع هذه التعطل حين نحاول استخدام النظر فإن قوى العين الباطنة ـ التي نطلق عليها "العين الباطنة"ـ تتحرك.

ووقايةً للسمع من الأصوات الخارجية، وصرفِ العناية إلى الأصوات الباطنة تُتخذ قطعة من القطن مع مسحوق الفلفل الأسود مبلولة بعض البلل وتجعل في الأذن وقت المراقبة . ومن خصائص الفلفل الأسود أنه يستوعب تيارات الأصوات الخارجية، ويأتي بالصوت الداخلي إلى سطح السمع.

ومن مزيد فائدة اتخاذ القطعة القطنية الفلفلية في الأذن وشد العين بالرباط أن تأثير الجو يخف حين المراقبة لحد ممكن. ولايلزم اتخاذ هاتين الوصفتين خلال المراقبة. فإنه يمكن ممارستها بغيرهما.

وبالنظر إلى هذه الأمور كلها يجب الجلوس جلسة مريحة، وتحرير الذهن لمدة مع غمض العين، ثم الإعراض عن كل شيء والشروع في المراقبة.

التصور:

 قد يقع الناس فريسة للتردد في حقيقة التصور وكيف يتأتى؟ ويحمل التصور على النظر إلى شيء مع غمض العين، فمثلاً يتصور البعض المعلم الروحاني (أي تصور الشيخ) فإنه يحاول أن ينظرـ مع غمض العين ـ إلى ملامح الاستاذ الجسمانية أو تقاطيع وجهه.

ويراقب البعض الأنوار، فإنه يحاول أن يرى النور مع غمض العين، فهذا العمل لايشمله تعريف التصور، بل معناه أن المرء يحال أن رؤية الشيء مع غمض العين ، فعملُ الرؤية لم ينقطع. وبما أن عمل الرؤية لم ينقطع فلم يتحقق التصور.

ومعنى التصور أن يصرف المرء نظره من كل شيء، ويفنى في خيال من الخيالات. و لايلبس الخيال معنى من المعاني، ولايحاول رؤية شيء من الأشياء. فمثلاً إذا تصورنا المعلم الروحاني فصفته أن يغمض المرء عينيه، ويقعد متخيلاً أنه يتوجه إلى الشيخ، أوأن ذات الشيخ يرتكزعليها توجهه ونظره، دون أن يحاول رؤية ملامح الشيخ الجسدية أوتقاطيع وجهه. وكذلك يشعرـ حين مراقبة الأنوارـ بأنها تمطر عليه دون أن يلتفت ذهنه إلى حقيقة النور أولونه.

ويعاني المبتدئ توتراً ذهنياً شديداً حين تتوجه إليه خيالات متفرقة. فما أن يبدأ المراقبة حتى تهجم عليه الخيالات والخطرات.وكلما يحاول أن يزيد الذهن هدوءاً تزداد الخيالات وروداً وهجوماً حتى تطرأ عليه التعب العصبي والنفور. وربما تزداد الخيالات شدة تضطر المرء إلى ترك المراقبة. ويظن أنه لايقدرعلى المراقبة. مع أن هذا الأمر مجرد وسوسة لاغير.

وموقف الذهن يشبه الفرس. فحين نبدأ بتربية الفرس فإنه يزاحم مزاحمة شديدة. ثم ننجح في ذلك بجهود متواصلة. كذلك الذهن يتطلب التحكم فيه والسيطرة عليه الجهد المتواتر. فإذا مارس المرء المراقبة بالمواظبة مع التقيد بالأوقات فإن القوة الإرداية تتحرك، و يُكبح جماع فرس الذهن في النهاية.

وكم من مثالٍ في حياتنا الشعورية، يتركز فيها العناية ـ رغم الخطرات كلها ـ على نقطة واحدة لمدة طويلة. وسنسوق أمثلة تشرح معنى قيام التصور في المراقبة.

مثال1:رجلان يربطهما علاقة محبة ومودة. فإذا انعقدت علاقة الحب بين شخصين فإن ذهن كل منها يستقرُّ به خيالُ الآخر لمدة أطول. وتتبادل خيالات كل منهما بعضهما مع بعض. ورغم تبادل الخيالات هذا لاتتأثر شؤون الحياة.

مثال 2: قد يغيب الابن عن أمه أياماً، فإن الأم حينئذ في وضع يسيطر فيه خيال و تصور الابن على قلب الأم ودماغه، وإن كانت لاتغفل عن شيء شؤون الحياة اللازمة، و لكن لايفارق خيال الابن ذهنها.

مثال 3: حين يكتب المرء المقالة يصرف كافة الصلاحيات الذهنية إلى المقالة. ويجعل نصب عينيه تفاصيل المقالة، وصياغة الجمل. وتعمل الحواس في جهات عدة. والنظر واقع على الورق، واليد ماسكة بالورق، والأذن تسمع الأصوات، والقوة اللامسة تشعر بالطاولة والكرسي. وتدرك القوة الشامة الطيب الذي يسود الجو. ورغم ذلك لايفارق الذهن المقالة وتفاصيلها، حتى تنتقل المقالة إلى الورق.

مثال 4: طالما نعاني مشقة من المشقات، ونقوم في هذا الوضع بكافة شؤون الحياة تقريباً . ورغم ذلك يطرق تصورُ المشقة الذهنَ. وشدة المعاناة في هذ الخيال تتوقف على العمق. فنقوم ونمشي، نأكل ونشرب، ونتحدث، ننام ونستيقظ، ورغم ذلك لو ذهبنا نتفحص عن الحالة الذهنية لتبين لنا أن خيال المعاناة لايزال يتحرك بشكل مستمر في الذهن. وربما يتغلب خيال المعاناة على الذهن تغلباً يجعلنا نقطع الصلة عما حولنا، ونغيب فيه.

كما أن الذهن ينصرف إلى جهة واحدة مع كافة الأفعال الجسدية والخيالات في الأمثلة السابقة، كذلك يستمر الذهن في المراقبة على تصور واحد مع كافة الخيالات. و تخطر بالذهن مختلف الخيالات من غير إرادة واختيار، إلا أن على المراقب أن يواصل التصور دون مبالاة بالخيالات والخطرات.

و ورود الخيالات القلقلة يرجع ـ لحد كبيرـ إلى مزاحمة الشعور. فإنه ـ الشعور ـ لايقبل ـ بسهولة ـ عملاً يعارض عادته. فإن استسلم المرء للشعور فإنه يضل عن الصراط المستقيم. و أما إذا واصل المراقبة غير مبالاة بمزاحمة الشعور، فإن تيار الخيالات تضمحل مع مرور الأيام. ويزول عن الطبيعة التوترُ والنفور. وأيسر طريق إلى النجاح في المراقبة أن يحذر رد الخيالات أو نفضها. فإنها ترد وتمضي. فلو ردَّ الخيالات مراتٍ ومراتٍ فإنه يعود تكراراً للخيالات. وإذاتم تكريرالخيال مرات تعمق رسم الخيال في الذهن.

مثال 5: تخرج من البيت إلى حديقة للتنزه. فإنه يستقرفي إرادتك أنك تخرج للتنزه في الحديقة. فلو زال هذا الخيال عن الذهن لم تستطع الوصول إلى الحديقة. ترى في الطريق الشوارع الجميلة والأبنية كما ترى في بعض الأماكن ركاماً من القاذورات. ولكن القدم تخطو إلى المنزل المنشود رغم رؤية هذه الأشياء كلها. فإن وقفت لترى منزلا جميلاً أو وقفت لدى القاذورات تستنكرها وتبدي كراهيتك لها، فإنك تنقطع عن السير ولن تصل إلى الحديقة. ولو استولى عليك خيال المنزل الجميل أوتصور القاذورة على الذهن فإنك لن تتمتع بالتنزه وإن وصلت إلى الحديقة.

والقصد من هذا المثال بيان أن المراقب لوذهب يرد خيالاً من الخيالات أويشتغل بتصويرتصور وخيال ما، فإن ذهنه قد تورط في أمورغيرهامة، ولن تتحقق المركزية الذهنية.

الإعراض:

ليعرض عن الإكثار من المراقبة في أول الأمر، وليسلك مسلك الاعتدال دون الشدة و العنت. فإن المشادة قد تُغلِّب قوة الإعراض. وربما يقهره التوترُ والنفور حتى يترك المراقبة. فيجب أن يقلل فترة المراقبة في البداية، ثم يزيدها بشكل تدريجي. ويحتل التقيد بالوقت في المراقبة أهميةً كبيرة. ومن الناس من يراقب كثيراً يوماً من الأيام، ثم يقلل الفترة إلى حد كبير يوماً من الأيام، وربما يتخلف عن المراقبة في بعض الأيام.

يحاول الشعور كل المحاولة أن يترك التمرين على المراقبة بصورة أوأخرى. وقد يُخَيَّل إليه أنه أصابه اليوم تعبٌ شديد، فيأخر المراقبة للغد، وربما يخطر بباله أنه لم يأخذ حظه الكامل من النوم، فيجب التبكيرفي النوم، وربما يقول في نفسه: أوخر المراقبة اليوم وسأداوم عليها من الغذ. فيتخلف عنها كل يوم.

ومعظم الناس يشتكون عدم مؤاتية الجو أوالأوضاع. ولاشك أن كل عمل من الأعمال يستوجب مؤاتية الجو، ولكن الشعور يتعلل بذلك للإعراض عن المراقبة كليا. فلو زالت كافة العوامل المعارضة لَتَلمَّس المرء علةً وعذرا آخر. وحين نريد أن نحقق مطلوباً أو رغبة، فإننا نقوم به ساعدت الأوضاع أوعارضت. فلوأدركنا النومُ فإننا نضطجع على الفراش وننام رغم الضجيج . وقدنتأخر عن موعد مقر العمل فنترك الفطور و نغادر إليه. ونريد أن نخرج مبكرين لكسب العيش فنستيقظ صباحاً بصورة أوأخرى. ونخرج للعمل شئنا أم أبينا.

وإذا أردنا الاطلاع على فوائد المراقبة وجب أن نقتطع الوقت كما نقتطع الأوقات للشؤون الأخرى. وإذا استعرضنا أشغال النهار كله لتبين لنا أن زمنا لابأس به ـ علاوة على الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ـ ينقضي في قتل الوقت، والتفكر والأشغال التي لا هدف وراءها. ثم نشتكي بأن المشاغل الباهظة لاتدع الفرصة ولاتوفر وقتاً.وإذا كنا نريد أن نحصل من خلال المراقبة على شيء، ولم نستطع أن نقتطع نصف ساعة من بين أربع وعشرين ساعة فالواقع أننا لانريد المراقبة أصلاً.

المراقبة والنوم:

لاتجتمعْ المراقبة والنوم، أي يجب الحذر من المراقبة في حالة يخاف فيها تغلب النوم. فليشرع في المراقبة بعد أن يأخذ قسطاً من الراحة بعد التعب الجسدي و الذهني. وذلك لكي يتم البرنامج الروتيني، ولايتغلب النوم. وللقضاء على التعب العصبي والجسدي يقدم على المراقبة غمضَ الغين وإرخاء الجسد، ويتنفس ببطء، ويتصور أن موجات الطاقة والقوة تنفذ إلى الجسد. ويواصل هذا العمل لدقائق، فإنه يقضي على الكآبة الجسدية والذهنية.

يستمر لمدة على جلسة المراقبة بهدوء بعد إنهائها. فإنه لاينهي المراقبة حتى يتغير هدف التوحيد. وكما أن كيفيات النوم تغلب لحد بعد اليقظة ثم تتغلب اليقظة الكاملة تدريجياً، كذلك إذا استمر جالسا وترك الذهن حراً لمدة بعد المراقبة فإن كيفية المراقبة تتدرج في الدخول إلى اليقظة. ثم يقوم ببطء بعد القعود لفترة قليلة ، ويتجول في الغرفة، وليحذر الكلام، فإن كان لابد منه فليتكلم بصوت خافت. وبذلك تنتقل آثار المراقبة إلى اليقظة بشكل أوسع .

وتكره الروحانية كثرة النوم. فإن كثرة النوم تجمد الدماغ. ولذا يؤمر بالاعتدال في النوم. ورغم أن النوم الأقل يعين ـ كثيراً ـ على إيقاظ الصلاحيات الروحانية إلا أنه لايستحسن التقليل كثيراً من وقت النوم للرجل العادي وخاصة المتبدئين. ولتكن فترة النوم خاضعة للحاجات الذهنية والجسدية. ويناسب في عموم الأحوال نوم ست ساعات على المستوى الوسط.

ويتعود بعض الناس مطالعة الجرائد والقصص، ومن أضرار هذا النمط أن الذهن يقبل نقوشه. ويسمع صداهاخلال النوم. ومن الممكن استغلال عادة الذهن هذه.وذلك بتقديم المراقبة على النوم لزمن قليل، ثم يأوي إلى الفراش، لتدور كيفيات المراقبة في الذهن . وسبق أن أوضحنا أنه لايناسب الجمع بين النوم والمراقبة.أي ليحذرتسليط النوم عليه بقصد وإرادة حين المراقبة. فليقعد دقائق ويراقب، ثم يضطجع للنوم.

ويجب تناول الغذاء السريع الهضم والساذج، وبكمية لاتثقل على المعدة. فيكون المرء خفيفاً؛ بل يتمتع بالمركزية الذهنية كذلك. ويقول الطب أيضاً: إن الغذاء الثقيل والتوابل و الفلافل الحارة مما يضر الصحة. والحاصل أنه يجب سلوك المسلك الوسط فيما يخص الغذاء. و ليحذر المراقبة أوأي تمرين روحاني حال ملء البطن. وإنما يقدم علي التمرين حين تكون قد مضت ساعتان ونصف على تناول الطعام على الأقل.

ذخيرة الطاقة والقوة:

نحن على صلة مستمرة بذهن الكون. وبالمراقبة تختزن طاقة الذهن الكوني أكثر فأكثر . ولابد من ادخار وحفظ هذه الطاقة واستخدامها استخداماً صحيحاً. ويتطلب ذلك الاحتراز عن كافة الأشغال والكيفيات الذهنية التي تضيع هذه الطاقة. وهذه الطاقة تعين على المراقبة. وتنشط الحواس التي تنفتح أبوابها إلى العالم الروحاني.

وإذا لم نسيطرعلى كيفياتنا الذهنية فإن هذه الطاقة تتوجه إلى الأسفل بدلاً من الصعود إلى الأعلى. وتعمل في الحواس السفلى وتضيع. فيجب السيطرة على الذهن وتوجيه في جهة واحدة. ويواجه المرء في أول الأمر النفورَ والكراهية، والتوتر والفظاظة، والثقل في الطبيعة. ثم يعود إلى مجراه فيما بعد.

ولابد من تقليل التوتر العصبي والضغط النفسي، كما يجب أن يهدأ الذهن ويبعد ـ بقوة الإرادة ـ إبعاداً يجعله لايتفاعل من التوترات الدماغية إلا أقل القليل. وكم من نبأ يسبب القلق والحزن. وكم من نبأ يبشر بالخير. ولابد من السيطرة على العوطف في الحالتين. ويجب الحد من الأعمال التي تضيع الطاقات العصبية، ومنها: الكلام بصوت جهوري، والفظاظة ، والغضب، والاشمئزاز والتفكير غير اللازم والإكثار من الميول الجنسية ونحو ذلك. ولابد من الاعتدال المتكامل في ذلك ليمكن التغلب على الميول الذهنية. والسيطرة على الحركات الذهنية لأقصى الحدود مما يخضع  الذهن للإرادة.

والحركات الذهنية تستمر بلاوعي، ونحن نتفاعل معها، وحين يصطبغ الذهن بصبغة المراقبة، فإنه يهدأ بغير وعي. ويعوق أسلوب التفكير وتأثير البيئة والمتاعب دون الحصول على هذه الكيفية. ولايمكن السيطرة على تأثيرات البيئة أكثر من حد، ولكن يمكن تعديل أسلوب التفكير تعديلاً لايؤثر على الهدوء النفسي. وإن الصبر والشكر واليقين والتوكل والاستغناء من الخصائص التي تحرر الذهن من الشك والوساوس وترتقي به إلى المقامات العالية. والتحلي بخصائص الخلق الحسن والتواضع ينآي بالذهن عن كيفيات السافلة. ويجب إبعاد الذهن عن الخيالات القذرة والفاسدة باستخدام القوة الإرادية. ويصاب الإنسان بالقلق والاضطراب إذا كان مصاباً بالشرود الذهني.

ولابد من وضع جدول للأعمال اليومية، فيشرد الذهن للبطالة. ويجب تلمس الأشغال الإيجابية للأوقات الفاضية، كيلا تضيع الطاقة الذهنية والجسدية بالانصراف إلى ما لايعني ولايهم. ويجب قراءة الكتب المفيدة والأدب الصحي، وممارسة كتابة المقالة والتصوير وما إلى ذلك من الأشغال. كما يجب ممارسة الألعاب والرياضات الجسدية اللائقة. والحذرمن الكلام المهمل مما يزيد العلم.


المراقبة

خواجۃ شمس الدين عظيمي

 السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.