Topics
إن وضع الكون يبين لنا إن الشيء الموجود سبق
وجوده في مكان ما، ليس ثمة شيء إلا وهو مرتبط بالماضي والحال، وحينما نلم بذكر
الماضي فإننا نتعرف على أسلاف شيء معين وان أمكننا التحدث إلى شجرة اللوز مثلا
لسردت تلك الشجرة شجرة نسبها كما يسرد الإنسان شجرة نسبه في معرض الكلام عن مآثره
العائلية، ولا يسعنا أن ننكر إن فصائل الغنم-هي الأخرى-قائمة على مقاديرها المعينة
ومقتضياتها الطبيعية، فكما أن للبيوت والأنواع والخلق شجرات فكذلك الحسنة والسيئة،
فالحسنة أيضا أسرة أو شجرة، ولما تصبح هذه الشجرة قائمة على أصولها تتفرع منها آلاف
الأغصان والأزهار والأوراق وتمتد كل هذه بحيث تكون الشجرة ظلا وارفا لأسرتها
وعشيرتها وذريتها. وربما لا نقيم وزنا
لسيئة ولكن تلك السيئة العادية أو التافهة ربما تتطور إلى شجرة، وهذه الشجرة،
بأشواكها وأزهارها الذابلة وأوراقها الجافة والسوداء الخشنة و أغصانها الميتة،
تكون سببا للهم لكافة نوعها ثم هذا الهم يتحول إلى وخزات الضمير ويولد أنواع من
الأمراض لا يمكن للإنسان تفاديها مع بذل كل المحاولات ،فإذا كنا جادين في إدراك
الواقع فيجب علينا معرفة أن الخير والشر إنما هما حيان ويتحركان كأغصان أسرة واحدة
في كافة مراحل الحياة ، فشجرة الخير تورث ظلال الرحمة والبركة وشجرة الشر تضفي
ضلال الخوف والقلق والهم والسآمة على النوع البشري ، وعلى كل شخص أن يعلم بأن
أعضاء الأسرة الواحدة يشكلون وحدة متكاملة طالما تعايشوا في تفاهم متبادل وتضامن
عاطفي، وتكون كلمتهم نافذة ويتمتعون بقوة جماعية، فمثلا إذا فككنا المكنسة عودا
عودا، وضربنا بكل عود منفصل ولو بلغ عدد تلك الأعواد آلافا مؤلفة، لم يحرك الضرب ساكنا، ولكنها إذا ضربنا بها وهي مجتمعة
في شكل المكنسة لترك الضرب جسم المضروب أزرقا قاتما. فالقرآن يلفت انتباهنا إلى توحيد صفوفنا وجمع
شملنا ويرشد المسلمين كعشيرة وأسرة وكشجرة باسقة إلى أن يعتصموا بحبل الله تعالى
جميعا وإلى أن لا يتفرقوا ويتنازعوا فتذهب ريحهم، فمن محتويات هذا الأمر القرآني
أن يجتمع المسلمون-أيا كان مسلكهم-على منصة واحدة ويطرحوا خلافاتهم جانبا عن طريق
الاعتصام بحبل الله تعالى جميعا، فيا حبذا
لو أدرك المسلمون هذه الحقيقة. ومن سوء
حظنا إن المسلمون ليسوا متفقين على القرآن من ناحية التفسير، فتفسير آية واحدة
يؤول إلى أقوال كثيرة متعددة متضاربة، فلا يمكن لأحد أن يتخذ موقفا حاسما بالخوض
في التفاسير، فالمفسرون لا يوجد لديهم مقياس يمكن التعديل عليه بصدد أولوية قول من
غيره، وهذه الظاهرة أدت إلى تطاول شجرة الخلاف وتكاثفها، فالشجرة التي كانت بالأمس
تحتها عدد قليل من الناس نرى تحتها اليوم حشودا جمة يغطون في سبات عميق. وإذا بحثنا في عصور أسلافنا وما كانوا عليه من
الظروف، أسفر البحث عن أنهم احتفظوا بوحدتهم ولم يواجهوا صعوبة في إدراك الإشارات
اللطيفة والكنايات البليغة من القرآن الكريم ،ولما نال الزمان من وحدتهم وأحلت الشجرة الخبيثة مكان الشجرة
الطيبة، توزعت أسر المسلمين في أفراد و أشخاص و تعامت عن الحكم و الأنوار
الإلهية. ولقد قال الله تعالى: (( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ
جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم منها ))
( آية 103سورة آل عمران ).
إن سائر الكون و النوع البشري من خلق الله
تعالى، فإن أنجبت الأم سبعة أولاد أو ثمانية أو تسعة لم تحب أن يدب بينهم الخلاف،
فالأمومة الطبيعية تستدعي الوئام و الوفاق الكلي بين أولادها و الالتفاف حولها حتى
لا ينتهي تمركز الأم، فالله تعالى كالأم على وجه المثال، فربوبية الله تعالى و
محبته تقتضي اجتماع أفراد الأسرة الإنسانية و التعايش السلمي و التمتع بنعمه
وآلائه، ولا شك إن رضا العبد إنما هو رضا الله رب العالمين.