Topics
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم لوحة
واجمة لتقلبات الزمن ، فتعرض لليتم قبل أن يفتح عينيه في الدنيا ، ولم يترب تحت
حضانة أمه الشفوق حتى اخترمتها منه يد المنية ، وبعد أيام قلائل من الأم ودعه جده
، ولما ترعرع لازمه الفقر والبؤس ولكنهما لم ينالا من معنوياته الرفيعة ، فما زال
يشق طريقه إلى الأمام فالأمام حتى جاء يوم وكانت الدنيا بزهرتها منكبة بوجهها على
قدميه ، وما بقيت مرحلة صعبة من مراحل الحياة الدنيا إلا واجتازها النبي صلى الله
عليه وسلم ، وأتون التجارب العملية حينما فتنه وأنضجه وعياً وتبصراً ووضع قدمه على
عتبة الأربعين عاماً أكرمه الله تعالى بالنبوة وأحدقت به المؤامرات العدائية من كل
اتجاه ، وتفاقم هذا العداء وامتد لعشر سنوات مليئة بالمحن ، وما نقموا منه إلا أنه
دعا الناس للخروج من عبادة الأوثان إلى عبادة الله تعالى وحده حتى لا يصيروا وقود
النار ، فبدلاً من أن يعترف القوم بفضله ، رموه بكل ما في جعبتهم من السهام حتى
أخرجوه عن مسقط رأسه ، بعد أن تحمل كل المشقات والمتاعب على امتداد عشرة أعوام .
ونجم عن هذا التصميم والاصطبار والالتزام
بالمبادئ أن كلمة التوحيد والرسالة اتخذت طريقها من تخوم العرب إلى قصور أباطرة
فارس والروم وهزتها من الداخل، وبالرغم من بلوغ قمة السلطة والسيادة فإن نبينا،
الذي رعى الأغنام في صباه، بكل بساطة لم يزغ عن ذاك المسير الساذج من الحياة، بل
كان يعمل كافة أعماله بيده، ولم يقم أبدا بتفخيم شخصيته وتمييزها عن غيره، فجريا
على نمط الآخرين من أهل بيته كان يحلب شاته ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده، ولما
تقرر إنشاء مسجد في المدينة المنورة ساهم بنفسه في كافة الأعمال التنفيذية حتى لم
يستنكف من نقل الحجارة إلى الموقع الإنشائي، ويمكنك إدراك تواضعه وبساطته في
الحياة إذا علمت أن قائمة كل ملابسه لم تتجاوز كساء وإزار وقميص وعمامة وكلها من
المنسوجات القطنية.
ولكن الجدير بالذكر أن هذه الحياة البسيطة لم
تكن لضيق يده أو انقطاعه عن الدنيا وتبتله بل ليقيم نفسه أسوة لأمته، ويشعرهم بأن
صنع حياة بسيطة في غير بهرجة يكون لصاحبه ضمانا له من كل الآثار السيئة.
ويحكي أبو هريرة رضي الله عنه أن الناس اقترحوا عليه صلى الله
عليه وسلم الدعاء على المشركين فلم يقبل اقتراحهم واعتذر بأنه لم يبعث نقمة – بل
رحمة للعالمين، ومن محاسن سيرته صلى الله عليه وسلم أن أهالي المدينة المنورة كانوا
يبكرون إليه مع أول شعاع الشمس ليجعل يده في مائهم تبركا به، فكان يجعل يده في
مائهم على الرغم من البرد القارس حتى لا يردهم ويجرح مشاعرهم، ومما يدل على سلامة
طبعه وخلوه من أية مسحة من الأنفة والكبر أن الجارية كانت تأخذ بيده صلى الله عليه
وسلم فيمشي معها في حوائجها فلا يرجع حتى يقضي حاجتها.
ولا يخفى على أحد أن عقد قرانه صلى الله عليه
وسلم وهو في مطلع شبابه، على خديجة رضي الله عنها وهي أكبر منه بخمسة عشر عاما،
فأمضى معها دسم حياته، أي قرابة ربع قرن، وما فسح مجالا لشيء ينغص حياتهما
الزوجية والاجتماعية، وبعد مفارقتها إياه
فما حل عيد الأضحى وضحى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرابين إلا وأهداه
أولا إلى ذوي خديجة رضي الله عنها، وإذا ذكرها بوداد كان يبعث عائشة رضي الله عنها
، وهي أحب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه، على الغبطة.
وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان،
وفي ذاك الزمان كان الناس ينظرون إلى البنات بعين الحقارة والازدراء ولكن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يذهب مذهبهم بل كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب رضي الله
عنهما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: كان لأبي طلحة
ابن يقال له أبو عمير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه قال: فرآه حزينا
فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير.
وعن أم خالد بنت سعيد رضي الله عنها قالت:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:سنه سنه (أي حسنة)، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزجرني أبي، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: دعها.
ولما قدم مكة خف إليه غلاما عبد المطلب
استقبالا له فحمل أحدهما من أمامه والآخر من خلفه.
وموجز كل ذلك أن كل عمله صلى الله عليه وسلم
كان يبرهن في كل وضوح على الآية القائلة: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ )) (آية 107 سورة الأنبياء).